وجدت بريطانيا نفسها بين المطرقة والسندان، فحاجة البلد إلى يد عاملة في تزايد مستمر، يقابلها إصرار حكومي من كلا الحزبين الرئيسيين، المحافظين والعمال، على اتباع سياسات صارمة في مجال الهجرة، ترتقي أحيانا لدرجة التشدد على غرار مساعي ترحيل المهاجرين نحو رواندا.
تقرير تلو آخر، يكتشف البريطانيون أن البلاد مقبلة على نقص حاد في العمالة، فكل المؤشرات تفيد بأن الأهداف الحكومية المرصودة، خلال العقد المقبل، في عديد من القطاعات “البناء والإسكان وصناعة الرقائق…”، مرتبطة وبشكل كبير بمدى توافر اليد العاملة الماهرة.
فقد ذكر تقرير شركة (تشيكاتريد) عاملة في مجال توفير العمالة أن النمو في البلد معرض للخطر، بسبب العجز الشديد في العمالة الماهرة، فأكثر من ثلث العمال الحاليين فوق سن 50 عاما، فهم بذلك على وشك الإحالة على التقاعد.
ما يجعل البلد بحاجة، في غضون عقد من الزمن، إلى توظيف 1.3 مليون عامل وأزيد من 350 ألف متدرب، في صناعات البناء وتحسين المنازل والإصلاحات، وفقا لوكالة “بي أيه ميديا” البريطانية.
شركات تصنيع الرقائق بدورها تدق ناقوس الخطر بشأن سياسات الهجرة في بريطانيا، لكونها تعيق البلد من المنافسة في هذه الصناعة. فالقيود الصارمة، وفق لوكالة بلومبرغ، تحد من توظيف المواهب الأجنبية التي تعد، بحسب مسؤول في شركة لصناعة الرقائق، “الموهبة هي عنق الزجاجة لكل ما نقوم به”.
تفيد الأرقام أن نحو 80% من شركات الرقائق في المملكة المتحدة لديها وظائف شاغرة، مع صعوبة شغل قائمة من المناصب بسبب نقص المهارات، ما يجعل العثور على يد عاملة ماهرة، مشكلة كبيرة في البلد.
وتشتكي هذه الشركات وأمثالها من إجراءات توظيف العمال الدوليين، لكلفتها المالية فضلا عن بيروقراطيتها المعقدة. فعلى سبيل المقارنة، يستغرق الحصول على تأشيرة في السعودية 18 أسبوعا نظير 6 أسابيع فقط في فرنسا.
مخاوف تعززها لغة الأرقام، فخلال عام 2023 منحت بريطانيا 286 ألف تأشيرة عمل فقط، بنسبة تراجع وصلت إلى 11% قياسا على العام السابق. استحوذ قطاع الصحة على 1/3 منها، ببلوغ نحو 90 ألف تأشيرة، متبوعا بالعمالة الماهرة بأزيد من 88 ألف تأشيرة، تليهم العمال الموسميين بـ34 ألف تأشيرة.
من جهتها، تسجل المصالح الحكومية البريطانية انخفاضا في عدد الأشخاص الراغبين في القدوم للعمل في البلد، رغم اعتمادها قائمة باسم “المهن الملحة”، قصد تغطية التخصيص لليد العاملة في قطاعات بعينها.
ففي قطاع الصحة مثلا أعلنت الحكومة خطة للقوى العاملة، حددت هدفا لتوظيف 51 ألف ممرض دولي خلال عامي 2023 و2024. لكنها بالكاد نجحت في استقطاب 21 ألف ممرض دولي، أي أقل من نصف العدد، ما يشكل ضغطا إضافيا على النظام الصحي في البلد.
فشل يرده مراقبون إلى القيود التي أحاطت بها حكومة المحافظين هذه الخطة، من قبيل منع العمال من استقدام الزوجة والأطفال إلى المملكة المتحدة، ما دفع كثيرين إلى العزوف عن الترشح للوظائف الشاغرة التي تقدر بنحو 10 وظيفة في قطاع الصحة فقط.
إجمالا، تتحدث التقارير عن حاجة السوق البريطانية إلى أكثر من مليون عامل، فأحدث استطلاع رأي للكونفدرالية البريطانية للصناعة يفيد بأن 3/4 الشركات في البلد تعاني مشكلات في العثور على العمال لتجاوز النقص الحاصل لديها.
كما أفادت ثلث الشركات بأنها مجبرة على تقليص الإنتاج، لعدم وجود ما يكفي من العمال للاستمرار في نفس مستوى الإنتاج، فيما اضطرت أخرى إلى الإعلان عن إيقاف بعض خطوط الإنتاج. فمثلا كشف مزارعون عن تركهم الأطنان من الفواكه عرضة للتلف، بسبب انعدام اليد العاملة الكافية لجني المحاصيل.
تطالب الشركات في بريطانيا الحكومة -إن كانت متمسكة بموقفها القاضي بتقليص العمالة الأجنبية- أن تدعمهم قصد الاستثمار بشراء آلات تحل بديلا عن اليد العاملة الأجنبية. هكذا يضمن هؤلاء حلا لمشكلاتهم، لكن أين لهم بمساهمة المهاجرين في الناتج الاقتصادي بنحو 83 مليار جنيه إسترليني سنويا؟
صحيفة الاقتصادية