تتواصل في صمت فصول الحرب الباردة بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ومحافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، الذين كانا حتى وقتاً قريب حليفين مقربين، يجمعهما الانتماء المناطقي ، والمصالح النفعية المشتركة، ويقفان في صف واحد في مواجهة الخصوم السياسيين. وقد تحول الخلاف بين الرجلين الذين يتحكمان في المشهد السياسي والاقتصادي في ليبيا إلى حالة من الصراع السياسي الحاد يحاول خلاله كل منهما استخدام كل سلطاته وتحالفاته،وعلاقاته الدولية والاقليمية لالحاق الهزيمة بالطرف الآخر، واقصائه من المشهد السياسي.
ويثير الصراع والحرب الباردة بين الدبيبة والكبير حالة من الاستهجان والجدل لما وصل اليه حال البلاد من تردي وضياع نتيجة الخلافات والخصومة بين الأشخاص المتحكمين في مقاليد الامور في ليبيا،وتكهنات حول أسباب الصراع، والاطراف الداخلية والاقليميةوالدولية التي تغدي هذا الصراع أو تقف وراءه.
ومن المعلوم ان الخلاف الذي نشب بين الدبيبة والكبير تعود أسبابه القريبة إلى اعتراض المحافظ على التوسع الكبير في الإنفاق العام وبشكل مفرط لحكومة الدبيبة ودفع الكبير الى ايقاف الصرف على الحكومة ، وابقاء الصرف فقط على بند المرتبات . ودعا الكبير الى ضرورة ان تكون هناك ميزانية موحدة ومعتمدة من مجلس النواب،والتوقف عن الإنفاق الموازي المجهول المصدر (حكومة حماد )وضرورة ترشيد الإنفاق حتى لاتقع البلاد في ضائقة مالية تدفعها إلى الاستدانة من المؤسسات المالية الدولية. وحسب تصريحات الكبير ان حكومة الدبيبة انفقت 165 مليار دينار خلال العام 2023،وبقيمة اجمالية وصلت الى 450مليار دينار خلال الثلاث سنوات الماضية. كما راجت بعض الأخبار عن استعداد الكبير للكشف عن قضية فساد كبرى تتعلق بنهب حوالي 5مليارات دولار من إيرادات النفط والوقود المكرر،يقال ان ابراهيم الدبيبة(ابن عم عبدالحميد،واحد مستشاريه)متورط فيها.
وماعمق الخلاف بين الرجلين قيام رئيس المؤسسة الوطنية للنفط حليف الدبيبة فرحات بن قداره بالاحتفاظ بجزء من قيمة إيرادات النفط مودعة في المصرف الليبي الخارجي،وعدم تحويلها للمصرف المركزي، ومبادلة النفط الخام بالوقود مما يمكن حكومة الدبيبة من الإستمرار في الإنفاق بشكل كبير وبدون ظوابط،أو رقابة.
وحسب بعض المصادر ان هناك اتصالات سرية بين الدبيبة وحفتر للاتفاق على إقصاء الصديق الكبير عن منصبه كمحافظ لمصرف ليبيا المركزي وتعيين بن قداره بدلا عنه ،والذي سبق وأن تولى هذا المنصب من العام 2006 إلى 2011.وربما تكون هذه الخطوة هي التي عمقت الخلافات بين الرجلين،ونشوب الحرب الباردة بينهما، ودفعت الكبير إلى التقارب مع رئيس مجلس النواب عقيله صالح الذي طلب منه وقف صرف أو توزيع اي مبالغ من البند الثالث إلا بموافقة المجلس. وقد وجه الكبير انتقادات حادة للدبيبة ،واتهم حكومته بممارسة الفساد وإهدار المال العام.
ويلاحظ ان الصراع والحرب الباردة بين الدبيبة والكبير ادت إلى خلق اصطفافات و تحالفات نفعية مع هذا الطرف او داك ،على غرار التحالف بين الدبيبة وبن قدارة، والتحالف بين الكبير ومحمد الطاهر عيسى الشخصية المتنفدة في مدينة مصراته وبارون الاعتمادات ،الذي كان أحد المقربين من الدبيبة والداعمين له،مما دفع الدبيبة إلى إلغاء الترخيص الممنوح لشركة اويا للطيران التي يملكها عيسى.
أنعكاس الصراع على الوضع الاقتصادي
ادت الحرب الباردة والصراع بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ومحافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير إلى جملة من الآثار السلبية على الوضع الاقتصادي في ليبيا الهش اصلا،وإلى تآكل قيمة العملة المحلية الدينار والمتأرجحة بين صعود قليل، وهبوط حاد وصادم طيلة الأشهر الماضية. وحسب المحلل الاقتصادي محمد درميش ان الخلافات بين مسئولين في الدولة مثل الدبيبة والكبير هو امر غير طبيعي، ويحدث ربكة تؤثر على الوضع الاقتصادي، واولها تأخير صرف المرتبات الخاصة بشهري يناير وفبراير.
ان الوضع الاقتصادي في البلاد وآثاره السلبية لم يعد مرتبط فقط بالاتفاق العام المفرط والفساد سواء من قبل حكومةالوحدةالوطنية او الحكومةالموازيةفي المنطقةالشرقية،ولا مرتبطة فقط بتقلبات السوق وعمليات المضاربة في العملة المحلية(الدينار )التي اصبحت مستهدفة باستمرار من قبل السماسرة وتجار العملة،وأصحاب الاعتمادات المستندية وإنما اصبح الوضع الاقتصادي في ليبيا مرتبط بشكل وثيق بتقلبات العلاقات بين الأشخاص المتحكمين في المشهد السياسي والاقتصادي، ومدى اتفاقهم أو اختلافهم على اقتسام المناصب والمكاسب الشخصية والمناطقية،ومثل هذه الصراعات الحقت ضررا بالغا بالاقتصاد،واثرت على حياة المواطنين، اوصلت أغلبهم إلى حالة من الفقر الموقع.
ومع تواتر الانباء عن وصول الازمة بين الدبيبة والكبير إلى طريق مسدود ،لم ينفع معها على مايبدو تدخل الوسطاءالدوليين مثل وزير الخارجية التركي (فيدان )ولا الوسطاء المحليين ومنهم المفتي العام الصادق الغرياني، لمحاولة لفض الاشتباك بين الرجلين ،وإصلاح دات البين بينهما، وإعادة التحالف والتنسيق بينهما،خاصة وان الحرب الباردة بينهما تؤثر على مصالح هذه الأطراف.
كما تسبب الصراع والحرب الباردة بين الدبيبة والكبير في هبوط قيمة العملة المحلية في مواجهة العملات الأجنبية إلى مستويات قياسية وغير مسبوقة،إذ تجاوز سعر الدولار الواحد مقابل الدينار حاجز 8 دينار لأول منذ سنوات عدة .ورافق التراجع الحاد في قيمة الدينار زيادة الارتفاع في أسعار السلع الأساسية، خاصة مع اقتراب حلول شهر رمضان المبارك، وزيادة معاناة المواطنين في الحصول على ابسط متطلبات المعيشة. كما باتت المواجهة بين الدبيبة والكبير تهدد التوازنات المالية والاقتصادية ، قد تدفع البلاد اذا لم يتم تدارك الأمر سريعا إلى طرق أبواب مؤسسات النقد الدولية.
بقلم : الدكتور مسعود المهدي السلامي: أستاذ الاقتصاد السياسي