أثبتت التجارب العملية ان القطاع العام لم يسهم بشكل ايجابي في عملية تجديد وتطوير وتحديث الاقتصاد وخلق حالة من الابتكار والابداع ، بل أكدت التجارب العالمية تدني وانخفاض أداء القطاع العام في معظم الدول النامية، وصلت إلى تكبد خسائر كبيرة غطت على رؤوس أموال وحدات الانتاج الحكومية، والتى كانت سبباً مباشراً في ارتفاع عجز الموازنة العامة للدولة ، وارتفاع الديّن العام .
كما اظهرت التحولات الاقتصادية العالمية ان عملية الانتاج بأبعادها المختلفة لم تعد قضية الدولة وحدها ، لانها لم تتمكن لوحدها من مواجهة تحديات الاسواق الدولية والوفاء باحتياجات المجتمع من السلع والخدمات الضرورية ، زيادة على دورها الاقتصادي التنموي ، الامر الذى يتطلب ضرورة الشراكة بين القطاعين العام والخاص في عملية التنمية .
وعند إلقاء نظره شاملة للتطورات الاقتصادية في ليبيا خلال الخمس عقود السابقة نلاحظ الهيمنة شبه الكاملة للقطاع العام في عملية إدارة الاقتصاد الليبي .
وبالرغم من الاموال الطائلة التي أنفقت على مدار عقود زمنية من أجل توسيع قاعدة الانتاج وتحريك الاقتصاد وجعله اقتصادا منتجا ، إلا أن اداء القطاع العام ، وخاصة الصناعي منه شابه القصور، وغياب التخطيط والادارة الفاشلة ، ووصل إلى درجة متدنية تمثلت في تكرار الخسائر لأغلب فروعه. وقد نتج عن هذا الاداء أن المشاريع الحكومية أصبحت عالة علي الميزانية العامة بدل أن تكون داعمة لها .
وبما أن القطاع العام أثبت فشله علي المستوى الدولى والمحلى فإنه لا يمكن الاعتماد علي القطاع الخاص لوحده وبشكل مطلق في إدارة الاقتصاد ،وانما من خلال عملية الشراكة بين القطاعين العام والخاص الذي اصبح يحظى باهتمام كبير من قبل الدول النامية والمتقدمة علي حد سواء في مختلف انحاء االعالم .
أهمية الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص في ليبيا
يجب اعطاء الدور المناسب للقطاع الخاص في عملية الشراكة الاقتصادية لما يتمتع به قدرة و كفاءة في إدارة النشاط الاقتصادي بشكل عام ،ولما يتمتع به من قدرة على اتخاد القرارات ،والمبادرة والابداع ،وتحمل مخاطر عملية الاستثمار وتطويرها واستخدامها بطريقة مستدامة ،ومحركا للابتكار، وخلق فرص للنمو الاقتصادي .
وفي ليبيا، فإن عملية الشراكة بين القطاعين العام والخاص هي الحل الامثل للنهوض بالاقتصاد ،وتطوير المشروعات الصغيرة والمتوسطة، و تخفيف العبء علي الخزينة العامة وايضا المساهمة في تشغيل أعداد كبيرة من العاملين بدل ان يتحملها القطاع العام لوحده، والتخلص من سوء الادارة والفساد الذى يلازم عادة القطاع العام ، هذا بالاضافة الى ان القطاع الخاص الذى يعمل من أجل الربح يعتمد على عملية الابتكار والابداع ،كما يعمل ايضا على زيادة فرص العمل مما قد يساهم في تخفيض معدل البطالة والفقر ، كما تعمل عملية الشراكة بين القطاعين العام والخاص على الحفاظ على رصيد الدولة من العملة المحلية والاجنبية التي عادة ما يتم استنفاذها في مشاريع خاسرة .
وأهمية الشراكة بين القطاعين العام والخاص في ليبيا تأتي ايضا من خلال فتح الفرصة للشريك الاجنبي الذي يعمل على التطوير والتدريب ،واستخدام الميكنة والاساليب الحديثة والاعتماد علي المنافسة، وهذا كله يؤدي الي تطوير الاقتصاد وتخليصه من التشوهات التقليدية .
الإطار القانوني للشراكة بين القطاع العام والخاص
يواجه مشروع الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص في ليبيا مشكلة اساسية تتمثل في عدم وجود التشريعات الحديثة الكافية التي تنظم عملية الشراكة، كما هو معمول به في دول أخرى، يقوم بعملية تنظيم الشراكة، ويضمن تنفيذها ، وبما يساهم في جذب الاستثمار، ومكافحة الفساد والمحسوبية، وضمان ان تكون اصول الشراكة ذات جودة عالية .
وعلى الرغم من ان القانون الليبي يتضمن بعض التشريعات التي تنظم عملية الشراكة بين القطاعين ،إلا ان هذه التشريعات لم تعد كافية لمواكبة اخر تطورات العصر التي تحتاجها الشراكة، ولم تعد كافية في معالجة بعض المسائل الدقيقة الخاصة بمشاريع الشراكة .
وحتى تكون الشراكة مثمرة وناجحة يجب ان تتضمن التشريعات الجديدة تحديد للجهات العامة المسموح لها بإبرام عقود مع القطاع الخاص ، والمشاريع التي يمكن السماح بالشراكة فيها ،ويجب منح الاولوية في معالجة التشريعات للقطاعات المهمة مثل الطاقات المتجددة ،والصناعات التكنولوجية ،التي تساعد ليبيا التطور ،وتمنح فرص عمل جديدة للشباب .بالمقابل ،يجب ان تستبعد هذه القوانين المشاريع الاستراتيجية مثل قطاع النفط والغاز والتي تخضع لنظام قانوني خاص بها .
واقع الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص في ليبيا
هيمن القطاع العام لعقود طويلة على عملية تمويل وتشغيل مشاريع البنية التحتية والخدمات العامة مثل مد الطرق وتشييد الجسور ،واقامة محطات الكهرباء ،وبناء المطارات والموانئ، وغيرها من المشاريع الحيوية، وتمويل هذه المشاريع من الخزانة العامة.
وكانت مساهمة القطاع الخاص في تمويل هذه المشاريع وغيرها ضئيلة او حتى منعدمة ،مما اثقل كاهل الخزينة العامة ،وحد من فاعليتها على تطوير البنية التحتية، وتقديم الخدمات العامة.
من جهة ثانية ،تسببت الأزمة الليبية الممتدة منذ أكثر من عقد الى إلحاق اضرار كبيرة في البنية التحتية ،وتدني في مستوى جودة الخدمات ،مما اعاد الى الواجهة موضوع ضرورة اتاحة الفرصة للقطاع الخاص المحلي والاجنبي ليقوم بدور اكبر في تنفيذ وتمويل مشاريع البنية التحتية والخدمات العامة.
تشير الاحصائيات ان مشاركة القطاع الخاص في اقتصادات الدول الشبيهة بالاقتصاد الليبي لاتتعدى 20% من اجمالي الدخل والعمالة ،فيما ترتفع هذه النسبة الى 40%في الدول غير النفطية ،اما في ليبيا فإن نسبة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد الليبي وصلت الى 80% قبل منتصف السبعينات ،ثم اخدت هذه النسبة تتقلص بشكل حاد مع التحول الى التطبيقات الاشتراكية ،والغاء دور القطاع الخاص ،حيث هيمن القطاع العام ولسنوات طويلة على شكل الاقتصاد ،واصبحت كل المشاريع تمول من قبل الخزانة العامة .
والرسم البياني التالي يوضح نسبة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الاجمالي في ليبيا:
ويلاحظ من خلال ذلك ان نسبة مشاركة القطاع الخاص غير مستقرة نتيجة تبعات الظروف السياسية التي تمر بها ليبيا ،فقد وصلت الى مستوى متدني خلال فترة العقوبات الدولية على ليبيا ،وبعد رفع العقوبات وعودة العلاقات الليبية الامريكية والليبية الاوروبية زادت نسبة مساهمة القطاع الخاص.
كما يلاحظ انه منذ 2011ومع بداية الازمة الليبية انخفض مستوى الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص.
وتشير احصائيات البنك الدولي الى ان نسبة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد الليبي تصل الى 17.3% من الناتج المحلي الاجمالي ،بما قيمته 8 مليار دولار خلال العام 2018. وهذا الرقم يعتبر مقبولا قياسا على طبيعة الاقتصاد الليبي ، واذا ما أخدنا في الاعتبار ان القطاع الاهم في الاقتصاد الليبي وهو النفط هو تحت الادارة العامة للدولة .
ومن المؤمل ان تزداد نسبة مساهمة القطاع الخاص الى 25% مع حلول العام 2030.وحسب تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في يونيو 2023 ان التحدي الاساسي هو تنويع النشاط الاقتصادي بعيدا عن النفط والغاز ،وزيادة الجهود لتحقيق نمو اقوى واكثر شمولا للجميع بقيادة القطاع الخاص .وأكد التقرير ان ليبيا تحتاج بشكل عاجل الى ميزانية شفافة ،والى تخفيض التكاليف المقترنة بارتفاع الانفاق على القطاع العام واعانات الدعم ،مشيرا الى ان رواتب القطاع العام تستهلك الجزء الاكبر من الانفاق الحكومي ،وان هناك حوالي 2.2مليون فرد ،اي ثلث السكان تقريبا يعملون نظريا في القطاع العام .
و الشراكة بين القطاع العام و القطاع الخاص لايعني انه انتقال من الاشتراكية الى الرأسمالية ،و لايعني تخلي الدولة على دورها في توجيه السياسات الاقتصادية، بل يعني ان الشراكة بين القطاعين ، يجب ان تكون مبنية على سياسيات اقتصادية متوازنة وتعكس مصلحة المجتمع، وتطوير دور الدولة بما يحفظ حقوق الفرد والمجتمع .
كما يجب ان يمر التوسع في القطاع الخاص بمراحل دقيقة ،تبدا بالتشريعات المناسبة التي تمنع تكوين الاحتكارات وهيمنة القطاع الخاص ، والخطط المدروسة ،والادارة الجيدة، وحتى تكون الشراكة منتجة يجب الاستفادة من تجارب الدول الاخرى ،واكتساب الخبرة منها .والاهم من كل ذلك ان يتولى القطاع الخاص القطاعات الانتاجية مثل المشاريع الزراعية والصناعية ،والتقليل قدر الامكان من مشاركته في المشاريع الاستهلاكية الغير منتجة، والتوسع غير المدروس في موضوع الشراكة قد يؤدي الى استفحال الفساد في مكوناته الداخلية والخارجية ،ويجعل الاستمرار في إدارة الاقتصاد بالطريقة نفسها خيارا مكلف جدا .
الدكتور مسعود المهدي السلامي
استاذ الاقتصاد السياسي