تعرض الاقتصاد الليبي في نظامه وهيكلته وسياساته لمجموعة من المتغيرات كانت لها اثار بالغة الاهمية على واقع المشروعات الصغرى ،وكذلك دورها في النشاط الاقتصادي نتيجة هيمنة القطاع العام واحتكاره للنشاط الاقتصادي مما اضعف قدرة الاقتصاد على التطور والمنافسة وعانى من الفساد وسوء الادارة .
لكن نتيجة المتغيرات الدولية التي فرضتها العولمة الاقتصادية ،والحصار الاقتصادي على ليبيا في ثمانينات القرن الماضي وما خلفه من ازمات داخلية على فاعلية الاقتصاد بدأت الدولة تتخد مسارا مختلفا للتوجهات السابقة يستند الى الحرية الاقتصادية, ويعتمد على آلية السوق في تسيير النشاط الاقتصادي، وتوفير الدعم المالي ، وتحفيز الافراد على المشاركة في النشاط الاقتصادي والحد من هيمنة الدولة عليه .
ولتفعيل هذا التوجه اتخدت الدولة مجموعة من الاجراءات اولها صدور القانون رقم 8 لسنة 1988والذي اجاز للأفراد بأنفسهم او بالمشاركة مع الغير ممارسة النشاط الاقتصادي، وامتلاك الاراضي الزراعية واستثمارها، وكذلك المصانع الخفيفة وغيرها من المشروعات الصغرى .
صدرت بعد ذلك، مجموعة من القوانين والقرارات الاخرى التي تؤيد هذا التوجه ، من بينها القانون رقم 9 لسنة 1992 الذي وسع من فرصة النشاط الفردي ،والقانون رقم 1لسنة 1993بشأن المصارف والنقود والائتمان ،كما صدر قانون تشجيع الاستثمار لسنة 2005.
وفي العام 2007 صدر القرار رقم 895 عن اللجنة الشعبية العامة سابقا ثم بموجبه تاسيس البرنامج الوطني للمشروعات الصغرى .
وفي العام 2011 اصدرت اللجنة الشعبية العامة سابقا القرار رقم 737 ثم بموجبه منح الشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة للبرنامج .
في العام 2013 ثم إنشاء صناديق للمشروعات الصغرى وهي :صندوق ثقة ،صندوق مبادرة ،صندوق ابداع ،صندوق ابتكار ،صندوق ريادة .والهدف من هذه الصناديق هو تمويل المشاريع الصغرى بأساليب تتوافق مع الشريعة الاسلامية .
ولم يقتصر الامر على القوانبن والقرارات في دعم المشاريع الصغرى بل تولت الدولة دعم هذه المشاريع من خلال المصارف التجارية التي اسندت اليها مهمة منح القروض الميسرة لاصحاب بعض هذه المشاريع .
والجدول التالي يوضح قيمة القروض الممنوحة للمشروعات الصغرى من قبل المصارف التجارية خلال الفترة من 1996 الى 2000(القيمة بملايبن الدينارات).
العام 1996=138,4مليون دينار .
العام 1997=241,5مليون دينار .
العام 1998=124,7مليون دينار .
العام 1999=لايوجد رقم .
العام 2000=63,4 مليون دينار .
(المصدر مصرف ليبيا المركزي ،الاحصاءات المصرفية والنقدية).
واقع المشروعات الصغرى
تشير الارقام الى تدني الدور الذي تلعبه المشروعات الصغرى في الاقتصاد الليبي ،و الى انخفاض عدد المشروعات الصناعية الصغرى مقارنة بإجمالي عدد المشروعات الصناعية. فمثلا سنة 1998بلغت نسبة المشروعات 29,3% وهي اقل نسبة في الدول العربية(المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين).
اما من حيث نسبة عدد العاملين في المشروعات الصغرى فتشير الاحصائيات الى ان ليبيا تاتي في المرتبة الثالثة ما قبل الاخيرة بنسبة بلغت 40,3%،فيما ياتي ترتيب ليبيا في المنتصف بنسبة بلغت 35% من حيث دور المشروعات الصغرى في الصادرات الصناعية التحويلية .
والجدول التالي يوضح وضع المشروعات الصناعية الصغرى في ليبيا بالمقارنة مع بعض الدول العربية الاخرى .
الاردن =نسبة وضع المشروعات الصغرى 77,8,نسبة العمالة 60,2%،نسبة مساهمة المشروعات الصغرى في الصادرات الصناعية 68,1%.
المغرب =نسبة وضع المشروعات الصغرى 80,6%،نسبة العمالة 74,3%,نسبة مساهمة المشروعات الصغرى في الصادرات الصناعية 74,1%.
تونس =نسبة وضع المشروعات الصغرى 76,6%,نسبة العمالة 71,1%,نسبة مساهمة المشروعات الصغرى في الصادرات 77,3%.
الجزائر =نسبة وضع المشروعات الصغرى 55,6%,نسبة العمالة لايوجد ،نسبة مساهمة المشروعات الصغرى في الصادرات ،لايوجد.
البحرين =نسبة وضع المشروعات الصغرى 81,2%،نسبة العمالة 72,5%,نسبة مساهمة المشروعات الصغرى في الصادرات 9,2%.
ليبيا=نسبة وضع المشروعات الصغرى 29,3%,نسبة العمالة 40,3%,نسبة مساهمة المشروعات الصغرى في الصادرات 35%.
الكويت=نسبة وضع المشروعات الصغرى 89,5%،نسبة العمالة 62%،نسبة مساهمة المشروعات الصغرى في الصادرات 12,2%.
عمان =نسبة وضع المشروعات الصغرى 44,6%,نسبة العمالة 58,1%،نسبة مساهمة المشروعات الصغرى في الصادرات 21,9%.
(المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين ).
دوليا، تسعى مختلف دول العالم اليوم الى تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي من خلال الاستخدام الامثل للموارد. ومن الطبيعي أن اشباع حاجات الانسان من السلع والخدمات يتحقق من خلال إنشاء وتوسيع وتطوير الوحدات الانتاجية والمصانع ، تؤدي المشروعات الصغيرة دورا هاما في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العديد من دول العالم النامي والمتقدم، ،وقد اتبتث التجارب في العديد من الاقتصاديات العالمية ان نظام المنشآت كبيرة الحجم ،كثيفة رأس المال لا يؤدي بالضرورة الى تسريع عملية التنمية ،بسبب محدودية هذه المشروعات في قدرتها الاستيعابية للأيدي العاملة .وفي حالة البلدان النامية تعد المشروعات الصغرى العصب الرئيسي لهيكل الانتاج والخدمات ،ولهذا بدات المؤسسات الدولية تدعو الى ضرورة تشجيع المشروعات الصغرى لاسيما في الدول النامية لما تتسم به المشروعات الصغيرة من خصائص اهمها :
كثيفة العمالة ،منخفضة التكاليف نسبيا ،قابليتها للتوطين حيث توجد قوة العمل ،وكونها تشكل مصدرا رئيسا من مصادر الدخل .علاوة على هذا كله ،تساهم المشروعات الصغرى بدور كبير في توفير فرص العمل ،والتقليل من معدلات البطالة ،وتوفير السلع والخدمات ،كما تساهم في التنمية المكانية للمناطق الريفية والنائية .
وتبنّت ليبيا في وقت مبكر الاهتمام بالمشروعات الصغرى لتساهم بدور فعال في عملية التنمية والنهوض بالاقتصاد .
دوافع الاهتمام بالمشروعات الصغرى
تتتمثل الدوافع الرئيسية من وراء الاهتمام بالمشروعات الصغرى في ليبيا توفير فرص عمل للباحتين عن عمل من الخريجين من الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة ،وتوفير فرص عمل لاصحاب الدخل المحدود الذين يرغبون في إقامة مشاريع تساهم في تحسين مستوى دخولهم ،وخلق الفرص للشباب خاصة في المناطق النائية لاقامة المشروعات التي تساهم في تنمية مناطقهم .
كما تساهم إقامة المشاريع الصغرى في تحريك عجلة التنمية ،وتخليص الاقتصاد من التشوهات التي لازمته نتيجة الاعتماد شبه الكلي على مورد النفط .ومن المعلوم ان السياسات الاقتصاديه في ليبيا تتجه منذ عقود الى كسر هيمنة القطاع العام على النشاط الاقتصادي بالسماح للقطاع الخاص بالشراكة في القطاعات الانتاجية خاصة المشروعات الصغرى .
تدنّي نسبة مساهمة المشروعات الصغرى في التنمية الاقتصادية المستدامة
بالرغم من الدور الهام الذي تمثله المشروعات الصغرى في عملية التنمية الاقتصادية فإنها تواجه مشاكل وصعوبات تحد من قدراتها على العمل والمساهمة في تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية الشاملة نتيجة عدة مشكلات من اهمها مايتعلق بالمناخ الاقتصادي ومناخ الاستثمار بصفة عامة ،وتتمثل في حصول انكماش في النشاط الاقتصادي او ركود في قطاع ما يكون فيه المشروع مرتبطا به،مما يعيق تشغيل المشروع تشغيلا اقتصاديا يضمن تحقيق الربح المطلوب .وعدم اهتمام الحكومات بصغار المنتجين وتقديم الدعم اللازم لهم لمواجهة حالات الخلل الاقتصادي مثل الركود والانكماش.
كما تبرز ايضا العقبات التسويقية الناجمة عن اهمال المشروعات الصغرى للجانب التسويقي في نشاطها ،حيث ان دراسة السوق ودراسة العوامل الاخرى التي تتحكم في قدرة الاسواق على استيعاب كامل العرض من السلع والخدمات المقدمة لاتلقى الاهتمام الذي تستحقه من قبل اصحاب المشروعات الصغيرة .
وهناك ايضا عقبات فنية ناجمة عن مشكلة اختيار الفكرة المناسبة لتأسيس المشروع ،وغالبا ماتتم باختيار غير مناسب ومدروس ،مما يكتب للكثير من المشروعات بعد فترة قصيرة الفشل ،او محاولة التغيير لنشاط اخر .
وفي مقدمة العقبات التي تعاني منها المشروعات الصغرى هي صعوبة وضعف فرص الحصول على التمويل المناسب ،وعلى القروض من المصارف التجارية ،وذلك لعدم ملائمة المعايير المتبعة في المصارف لطبيعة هذه المشروعات ،ومتطلباتها للحصول على التمويل اللازم بشروط ميسرة وملائمة.
الادارة الصحيحة.. المعادلة
بالاضافة الى كل ذلك فإن اغلب هذه المشروعات تفتقر للادارة الصحيحة والخبرة في العديد من المجالات كالتسويق والاعمال المحاسبية ،نتيجة لضعف المؤهلات وانعدام الخبرة لاصحاب المشاريع الصغرى .
إن استراتيجية تنمية المشروعات الصغرى تعني وضع خطة وطنية لدعم وتشجيع ورعاية هذه المشروعات، بحيث تتضح بها الاهداف وتتحدد بموجبها الاليات والادوات والاجراءات اللازمة لتنفيد هذه الخطة .ومن الضروري إنشاء جهاز مستقل يعهد اليه إقامة المشروعات الصغرى ورعايتها .ومن الضروري ايضا إنشاء مؤسسة تمويل متخصصة تكون مهمتها تقديم الدعم المالي لهذه المشروعات . كما يستلزم الامر إتباع سياسة اقتصادية متوازنة يكون هدفها النهوض بهذه المؤسسات وتعزيز دورها .
إن المشروعات الصغرى قادرة على توفير فرص عمل مباشرة ومؤقتة ،ناهيك عن قدرتها على اضافة فرص عمل جديدة غير مباشرة ،وان نجاح المشروعات الصغرى يرتبط بكل خطوة من خطوات مسيرتها بدءا من الفكرة إلى التنفيذ ،وحتى تنجح المشروعات الصغرى في القيام بدورها لابدّ من متابعة الاهتمام الحكومي في ليبيا بالمشروعات الصغرى وايلائها الدعم والمساندة ، وان يكون هذا الاهتمام عمليا وواقعيا بعيدا عن التنظير والشفهية .والاشراف على تنمية المشروعات عموما وتمكينها من تقديم الخدمات المساندة لتشجيع إحداث مشاريع جديدة ،وتطوير المشاريع القائمة ،ومتابعة ماثم انجازه سابقا. كذلك مساعدتها في تطوير ادائها وتحسين عملها وتدارك ماأرتكبته من اخطاء ،وذلك ضمن إطار استراتيجية تنمية المشروعات الصغرى ،وانسجاما مع مفهوم التنمية الشاملة .
الدكتور مسعود المهدي السلامي
استاذ الاقتصاد السياسي