عند تقييم أداء الاقتصاد الصيني فإن أغلب المؤشرات لا تقودنا إلا لتعبير واحد “تجربة اقتصادية مذهلة”. ففي الأعوام الـ26 الماضية ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للصين بما يزيد على 700 في المائة، واليوم ها هي الصين تحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي بناء على سعر الصرف في السوق، والأولى عالميا على أساس القوة الشرائية.
هذا الحجم الاقتصادي الهائل والنمو الضخم والسريع، والحفاظ على واحد من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالمي لما يزيد على ربع قرن، والنجاح في انتشال 800 مليون شخص من براثن الفقر، والتحول إلى أكبر مصدر في العالم وأهم شريك تجاري لعديد من الاقتصادات الدولية يجعلنا نقف مشدوهين أمام هذا النجاح الاقتصادي الذي قل نظيره.
لكن إذا بعدنا قليلا عن تلك المؤشرات الاقتصادية وبدأنا الحديث عن العملة الصينية “اليوان”، فإن الإعجاب قد يتلاشى أو لا يحظى بالتقييم المدهش ذاته الذي يحظى به الاقتصاد الصيني.
بالطبع اليوان قطع شوطا لا بأس به في طريقه إلى العالمية، فقد قفز من المرتبة الـ35 لأكثر العملات تداولا عام 2011 إلى المرتبة الخامسة اليوم، وهو أيضا خامس أكثر العملات استخداما للمدفوعات الدولية منذ نيسان (أبريل) الماضي بعد أن كان في المركز الـ30 عام 2022.
مع هذا لا يتمتع اليوان بالبريق ذاته الذي يحيط بالأداء الاقتصادي للصين، بل إن بعض تلك التقديرات تعد مضللة من وجهة نظر بعض الخبراء، فحجم تداول اليوان أقل من عشر تداول الدولار الأمريكي، وجميع عمليات تداول اليوان تتم مقابل الدولار.
والحصة الفعلية لليوان في المدفوعات الدولية 2.3 في المائة فقط مقابل 42.7 في المائة للدولار الأمريكي ونحو 32 في المائة لليورو، كما أن اليوان شكل أقل من 3 في المائة من الاحتياطي النقدي العالمي في نهاية العام الماضي مقابل 58 في المائة للدولار و20 في المائة لليورو.
ويدفعنا هذا إلى التساؤل هل يمكن للحرب الروسية – الأوكرانية أن تغير هذا الوضع وتمنح العملة الصينية قوة دفع تغير من وضعها الدولي وتجعلها تحظى بالتقدير ذاته الذي يحظى به الاقتصاد الصيني، أو أن تمهد الحرب الطريق لتغير وضعية اليوان ليكون أكثر قدرة على منافسة العملات الدولية الأخرى، أم أن الحرب ستفتح الأبواب أمام اليوان لينتقل إلى المرحلة الثانية في طريقه ليصبح عملة دولية.
“الاقتصادية”، استطلعت آراء مجموعة من الخبراء في مجال الاقتصاد الدولي والتمويل العالمي لمعرفة تأثير الحرب الروسية – الأوكرانية في وضعية اليوان الدولية مستقبلا؟
الدكتور جاسبر ليما أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة لندن يعتقد أنه أيا كانت نتائج تلك الحرب فإن مكانة اليوان كعملة دولية ستتحسن بشكل كبير، مع هذا لا يزال هناك – من وجهة نظره – طريق طويل يجب أن تقطعه العملة الصينية لتحقيق مرادها.
ويقول لـ”الاقتصادية، إن “العامل الأساسي في تأثير الحرب في مكانة اليوان الدولية ينبع من الطريقة التي تعاملت بها إدارة الرئيس بايدن مع الصراع، إذ قامت بتسليح الدولار وعدته جزءا من منظومة الأسلحة التي يمكن استخدامها لعزل روسيا دوليا، هذا أدى إلى قلق عالمي خاصة في الاقتصادات الناشئة تجاه المستقبل وإمكانية تكرار ذلك معها، هذا القلق أوجد رغبة دولية لإيجاد بدائل لتفادي التأثير الضار لتسليح الولايات المتحدة للدولار”.
ويضيف “التغير الذي يمكن أن نشهده نتيجة الحرب أن اليوان سيخرج من نطاق التعامل التجاري بين دولة ما والصين، ليصبح وسيلة للدفع بين دولتين يقيمان علاقة تجارية أو صفقة ما لا تشارك فيها الصين، وهذا تطور مهم للغاية ويمثل قفزة عملاقة إلى الأمام بالنسبة إلى اليوان ويضفي عليه صبغة دولية حقيقية، فعلى سبيل المثال بنجلادش تدفع لروسيا باليوان لبناء محطة للطاقة النووية، لا شك أن هذا النوع من الصفقات أو المعاملات محدود في الوقت الراهن لكن مع مرور الوقت سيتزايد هذا الاتجاه عالميا، ليفتح الطريق أمام اليوان لتعزيز مكانته الدولية”.
الدكتورة ففيان كيرسون أستاذة التجارة الدولية في جامعة جلاسكو ترى أن الحرب الروسية الأوكرانية لها تأثير إيجابي في اليوان الصيني، متوقعة أن يبرز باعتباره ثاني أهم عملة دولية بعد الدولار خلال الأعوام الثلاثة التالية للحرب بعد توقفها، وكلما طال أمد الحرب تم تعزيز قوة اليوان الدولية بين العملات المنافسة، وزاد الاعتماد عليه كاحتياطي نقدي دولي.
وتؤكد أن المدخل الصيني لتعزيز واقع اليوان دوليا يعتمد على مزيد من العلاقات التجارية مع روسيا، ويلاحظ ارتفاع حصة اليوان في تسويات الواردات الروسية من 4 في المائة إلى 23 في المائة العام الماضي.
وتقول لـ”الاقتصادية”، “زادت الصين بشكل كبير من استخدام اليوان لشراء السلع الروسية، وفي الوقت الراهن مجموعة رئيسة من الصادرات الاستراتيجية الروسية للصين مثل النفط والفحم وبعض المعادن تتم تسوية مدفوعاتها باليوان بدلا من الدولار، وإجمالي تجارة السلع الأساسية بين روسيا والصين 88 مليار دولار وتم التحول إلى اليوان لدفع جزء كبير منها في أعقاب الحرب الأوكرانية، التي ساعدت الصين على تدويل عملتها على حساب الدولار”.
على الرغم من أن تلك النسبة من التبادل التجاري باليوان بين الصين وروسيا تمثل جزءا ضئيلا من إجمالي التجارة الدولية، إلا أنها توجد ما يطلق عليه “تأثير كرة الثلج”، إذ يشجع ذلك مزيدا من الدول إلى الانضمام إلى ما يعرف الآن بـ”كتلة اليوان” لتقليل مخاطر التعرض للدولار.
مع هذا يرى أستون باركر الخبير الاقتصادي والاستشاري السابق في البنك الدولي أنه يصعب في الوقت الراهن الحديث عن “ديمومة” في الطريق الذي فتحته الحرب الروسية – الأوكرانية لصعود نجم اليوان الصيني بين العملات الدولية.
ويشير لـ”الاقتصادية”، إلى أنه “في الوقت الراهن نحن أمام مشهد استثنائي، فالحرب ستتوقف يوما ما وستجلس الأطراف المتصارعة على المائدة للتفاوض، وبعد أن تصمت المدافع سيعاد ترتيب أوراق الاقتصاد الدولي المبعثرة حاليا. بالطبع الحرب الروسية – الأوكرانية عبدت الطريق لليوان لنيل مزيد من الحظوة الدولية، لكن في الأغلب ستتقلص تلك الحظوة بعد الحرب وستنحصر في تجارة السلع والطاقة، فالصين تسعى منذ عقد إلى تدويل اليوان، وفي عام 2015 أطلقت بكين نظام المدفوعات عبر الحدود بين البنوك لتسهيل المدفوعات الدولية باليوان، وفي عام 2018 أطلقت أول عقود آجلة للنفط الخام مقومة باليوان للسماح للمصدرين ببيع النفط باليوان، وفي الأغلب ما تستخدم العملة الصينية بشكل متقطع في مشتريات السلع الصينية الكبيرة لأن معظم التجارة العالمية في النفط والغاز والمعادن الأساسية يتم تسعيرها بالدولار”.
الخبير المصرفي أستون كولي يرى أن الحرب الروسية – الأوكرانية أسهمت في نمو اتجاه تعمل عليه الصين منذ أعوام لتعزيز وضع عملتها الدولية في سوق التجارة الدولية، مع تقليل الاعتماد على الدولار مدفوعة في ذلك بالمخاطر الناشئة من الاقتصاد الأمريكي مثل الانهيار المالي عام 2008، وبالطبع الرغبة في تعزيز نطاق نفوذها الدولي.
ويقول لـ”الاقتصادية”، إن “الصين تسرع حاليا من تحويل تجارتها الخارجية إلى اليوان، فهناك حملة أمريكية لعزل الاقتصاد الصيني، كما تخشى بكين تعرضها لعقوبات مماثلة لروسيا إذا ما نشبت حرب في تايوان، واليوم ولأول مرة في التاريخ يتجاوز اليوان الدولار الأمريكي ليصبح العملة الأكثر تداولا في بورصة موسكو”.
ويضيف “دفع الصين إلى تعزيز تداول عملتها يسبق الحرب في أوكرانيا، وعلى الرغم من أن اليوان لا يزال بعيدا عن الدولار من حيث النشاط العالمي، لكنه بين آذار (مارس) 2021 وآذار (مارس) 2023 بلغت حصته في سوق تمويل التجارة وهو النظام البيئي الذي تبلغ تكلفته عدة تريليونات من الدولارات ويدعم 80 في المائة من التجارة العالمية، أكثر من الضعف”.
مع هذا ترى الدكتورة هازل ميتشيل أستاذة التمويل الدولي في جامعة لندن أن كل تلك الجهود لن تحقق الأهداف الصينية طالما ظلت تعمل ضمن أطر المؤسسات الغربية التي تنظم عملية التبادل التجاري الدولي، وأن الحرب الروسية – الأوكرانية مثلت خطوة مهمة في مسيرة اليوان، لكن تلك المسيرة يمكن أن تصطدم بمعوقات تحد من إكمال عملية التحول، وأبرز تلك المعوقات الهياكل التنظيمية الغربية المرتبطة بأنظمة الدفع والسداد العالمية.
وتؤكد لـ”الاقتصادية” أن القيادة الصينية تدرك تماما أهمية الإسراع بتوسيع نطاق تدويل اليوان لحماية إمداداتها من الطاقة في أعقاب العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، لكن الأهم بالنسبة إليها إيجاد أنظمة بديلة ومؤسسات فاعلة لتعزيز عملية تداول العملة الصينية، فلا ينسجم المضي قدما في ترسيخ اليوان في المعاملات الدولية، والاستمرار في الاعتماد على أنظمة مالية مثل نظام سوفت”.
وتضيف “لهذا سعت بكين إلى السير في مسارين أحدهما تعزيز اليوان مستفيدة من انعكاسات الحرب الروسية – الأوكرانية على الاقتصاد الدولي، والمسار الآخر إيجاد بدائل ومؤسسات وابتكارات تكنولوجية يمكن الارتكاز عليها وقت الحاجة إذا ما حدث صدام مع الغرب وتحديدا الولايات المتحدة”.