على الرغم من الرواج الاقتصادي الهائل الذي تعيشه ليبيا وامتلاكها لثروات طبيعية كبيرة كالنفط وموارد كبيرة اخرى ، والعدد القليل من السكان الذي لايتجاوز 7 مليون نسمة، وتوالي مشاريع التنمية والإعمار في كل القطاعات التي جعلت ليبيا منذ عقود طويلة مقصدا للباحثين عن فرصة للعمل والاستثمار من دول الجوار، وغير دول الجوار ،في الوقت نفسه نجد ان البلاد تواجه تفشي ظاهرة البطالة وبمعدلات كبيرة ومقلقة قدرت حسب بعض الأحصائيات انها من اكبر نسب البطالة في العالم .
يضاف اليها البطالة المقننة في الكادر الوظيفي المتظخم في مؤسسات الدولة مما ارهق ميزانية الدولة في سعيها الوفاء بالتزاماتها تجاه اكثر من مليون وربع المليون موظف ،تدفع مرتباتهم من خزينة الدولة .
يتم سنويا تخريج الالاف من الشباب من الجامعات والمعاهد العليا وفي مختلف التخصصات ،ولكن نتيجة عدم ملاءمة مخرجات التعليم لسوق العمل فإن اغلب هؤلاء المتخرجين لايجدون فرصة للعمل تتناسب مع تخصصاتهم، ويحقق طموحاتهم،،ويجدون انفسهم فريسة للبطالة وماتخلفه من احباط وتدمر ،مما يجبرهم إما للقيام بمهن مؤقتة وموسمية ذات مردود مادي بسيط ،اوالتفكير في ركوب قوارب الهجرة وترك البلاد بحتا عن حياة افضل لم يجدوها في بلادهم .
ورغم ان مفهوم البطالة في ليبيا يختلف نسبيا عن البطالة بمفهومها التقني او التقليدي ،اي انه يمكن الاشارة لنوعين من البطالة ، في ليبيا : النوع الاول وهم الذين لايجدون فرصة عمل بالمطلق، وهو مايسمى بالبطالة الصريحة ،النوع التاني وهم اولئك الذين يتقاضون مرتبات من خزينة الدولة ولكنهم لايعملون عادة ،وهو مايسمى بالبطالة المقنعة،غير ان بعض الدراسات التي تهتم بموضوع البطالة في ليبيا تضع كل الفئات التي لاتعمل في القطاع العام للدولة ضمن تصنيف البطالة ،ودون حساب من يعملون في القطاع الخاص او من هم اصحاب مشاريع صغرى او متوسطة واصحاب بعض هذه المشاريع يلاقون الدعم المالي من الدولة.
وتعد تفاقم حدة ظاهرة البطالة ،وزيادة اعداد العاطلين عن العمل سنويا في دولة غنية تنعم بموارد طبيعية هائلة ،وارتفاع معدلها حتى مقارنة بالدول الفقيرة وشحيحة الموارد،
وماتخلفه من اثار سلبية على حياة الافراد والمجتمع مسألة مقلقة ،وتكشف عن الخلل في بنية وهيكل الاقتصاد الليبي الذي يعد اقتصادا ريعيا بامتياز ،ويعاني من ظواهر الفساد وسوء الادارة والانفاق العام غير المنظبط.
تتضارب الارقام الرسمية حول نسب البطالة في ليبيا، وتقف الحكومات المتعاقبة عاجزة عن تشخيص اسباب هذه الظاهرة ، وإيجاد الحلول الناجحة لمواجهتها ،كما تقف عاجزة ايظا عن توفير فرص عمل جديدة لعشرات الالاف من الشباب العاطلين عن العمل .
واقع ظاهرة البطالة في ليبيا:
تتضارب التقديرات الرسمية حول نسب البطالة في ليبيا ، ففي حين اشار تقرير لمركز المعلومات والتوثيق الحكومي أن نسبة البطالة في ليبيا لم تتجاوز 6% في نهاية العام 2018 ،اكد وزير العمل والتأهيل السابق المهدي الامين ان نسبة البطالة تقارب 15%في العام 2019 .فيما سبق وان كشف تقرير للبنك الدولي العام 2015 بأن ليبيا لديها تاني اعلى معدل بطالة في العالم وبنسبة تصل الى 19% خلال الفترة من 2012 الى 2014 ولايسبقها في نسبة ارتفاع معدل البطالة إلا قطاع غزة 30% .
واشار تقرير آخر صادر عن لجنة الامم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية ( الاسكوا) في نهاية العام 2020 الى ان نسبة البطالة في ليبيا تتراوح مابين 18%الى 19% خلال العشر سنوات السابقة ، وحسب التقرير ان هذه النسبة تعد الاعلى بين بعض دول الجوار خلال نفس الفترة ، وقد حددها التقرير كالاتي :
وحسب تقرير البنك الدولي للعام 2023 ارتفاع معدلات البطالة في ليبيا في العام 2023 ارتفعت الى 19.6%,وأن اكثر من 85%من السكان النشطين يعملون في القطاع العام والاقتصاد غير الرسمي,وان الاقتصاد شهد انكماشا في العام 2022بنسبة 2.1% وسط تظخم كبير في الاسعار .
وحسب أحصائية لوزارة العمل والتأهيل بلغ عدد الباحتين عن العمل 340.9 الف شخص ،منهم 151.281الف من الذكور ،اي بما نسبته 44%من العدد الكلي ،فيما كان عدد الإنات 189.67 الف ،اي بما نسبته 56%.واشار التقرير ان نسبة المؤهلين الباحثين عن العمل بلغت 58% من اجمالي الاحصائية ،فيما كانت نسبة غير المؤهلين 42%.وتتوزع نسبة الباحثين عن العمل على 4 مناطق هي :
أسباب تفشي ظاهرة البطالة:
تتعدد الأسباب التي أدت إلى انتشار ظاهرة البطالة في ليبيا حيث يمتل الخلل في بنية الاقتصاد الليبي اول هذه الاسباب واهمها ،فهو لايزال اقتصاد اشتراكي تهيمن فيه الدولة على اغلب القطاعات ،وهي تتدخل في سياسات خلق الوظائف وسوق العمل . وغياب دور الحكومة في تنمية مهارات الشباب ،وإتاحة الفرصة للعمل في السوق الليبي .كما ساهمت الحروب وحالة عدم الاستقرار التي تشهدها البلاد في تهالك اغلب القطاعات الخدمية وفشلها ،وتحول اغلب العاملين فيها إلى البطالة المقنعة او الصريحة.
يقول المحلل الاقتصادي أحمد المبروك إن ارتفاع معدلات البطالة سببها الانقسام السياسي الذي ينعكس على سوق التوظيف بالاظافة الى عدم وجود رؤية استراتيجية لتطوير سوق العمل ،وغياب التأهيل والتدريب منذ العام 2011. هذا بالاضافة الى الفساد الاداري ،والمحسوبية والجهوية التي تسببت في ان يتولى المؤسسات والقطاعات الخدمية والاستثمارية وغيرها اشخاصا يفتقدون القدرة على القيادة والكفاءة المهنية اللازمة .هذا بالاضافة الى كثرة العمالة الاجنبية الوافدة التي تعج بها ليبيا والتي تصل حسب التقديرات الى اكثر من مليون عامل من دول الجوار وغير دول الجوار ، وهي اغلبها عمالة عشوائية غير مدربة ، وتعمل في مهن فردية غير مفيدة في التنمية الاقتصادية ،ولا يتم الاستفادة منها في عملية تنشيط الاقتصاد الوطني،
وخلق فرص عمل جديدة .يرى الكاتب فرج المجريسي المتخصص في الموارد البشرية ان الدولة فشلت في تمكين الشباب، وخلق فرص الإنماء والاستثمار لهم ،وهذا سبب وعامل من العوامل التي لها دور كبير في ارتفاع معدلات البطالة .
لا احد من الجهات الرسمية الحكومية المعنية ينكر مشكلة تفشي ظاهرة البطالة في دولة غنية ،وتمتلك ثروات طبيعية هائلة ،وتستقبل سنويا عشرات الالاف من العمالة الاجنبية الوافدة .ورغم الوعود التي اطلقتها وزارة العمل والتأهيل بحكومة الوحدة الوطنية حول برامج تدريب الشباب بالتعاون مع شركات اجنبية ،والعمل على إدماجهم في القطاع الخاص في جميع المناطق والاجراءات الوقائية المؤقتة التي تتخدها حكومة الوحدة الوطنية لمنع استفحال هذه الظاهرة ،إلا ان القضاء على البطالة لايجب ان يتوقف عند العلاجات المؤقتة ،بل لابد من العمل على تغيير هوية الاقتصاد الكلي الليبي، والتخلص من هيمنة الدولة على القطاع العام، وإعادة تطوير قانون العمل، وابتكار معايير جديدة في طرق التعليم ، ومعالجة الخلل في مخرجاته ، وتوجيهها بشكل يخدم الاقتصاد وسوق العمل ، ودعم المشاريع الشبابية الخاصة ،وتعزيز دور ريادة الاعمال لإنشاء المشاريع الصغرى والكبرى تكون مصدر دخل للشباب ، وتستوعب الكم الهائل من الخرجين الباحثين عن فرص للعمل.
ولابد ان تعالج الدولة مشكلة البطالة الصريحة والمقننة من خلال برامج حقيقية للتنمية ،وعدم تأسيس جديد للاقتصاد الريعي الذي يحول الافراد الى موظفين غير منتجين .
الدكتور .مسعود المهدي السلامي: أستاذ :الاقتصاد السياسي