نشرت صحيفة الانباء الليبية تحقيقا مطولا عن العمالة الأجنبية في ليبيا ، وخاصة المصرية منها سواء التي قدمت للبلاد بطرق رسمية أو تلك التي دخلت بطرق غير قانونية وغير منظمة والتي تزايدت أعدادها بشكل كبير مستغلة الأوضاع الهشة في البلاد وحالة الانقسام المؤسسي ، وغياب القوانين المنظمة لسوق العمل ، وأيضا احصائيات أعدادها .
ورصدت الصحيفة في تحقيقها أوضاع هذه العمالة ، مستشهدة بحالات التقتها واستهدفها التحقيق في مدينة بنغازي ومدن الشرق الليبي .
واستهلت الصحيفة التحقيق بسرد بعض هذه الحالات قائلة – جلس على الرصيف يلحف وجه لهيب شمس يوليو، وتشي ملامحه بثقل أعباء الحياة، محمود عبد الله (عامل مصري 35 عاما) قادم إلى مدينة بنغازي بحثا عن لقمة العيش، في هذه المدينة التي طالما احتضنت الغريب على مر التاريخ وفتحت له أبواب الرزق، أصبحت اليوم، رغم الأوضاع الهشة في ليبيا عموما، وجهة للعمال الوافدين بجنسياتهم المختلفة، كل منهم دخل البلاد بطريقته الخاصة سواء كانت شرعية أو غير شرعية، ولكل منهم قصة مثقلة بالآمال والآلام، بالوجع والخوف من المجهول، بكل ما هو إنساني، في عالم متقلب تتقاذفه المتغيرات الدولية في كل لحظة.
وقال الصحيفة إنه يُلاحظ من يتجول في بنغازي اليوم الأعداد الكبيرة من العمالة الوافدة، وبخاصة العمالة المصرية، في شوارع المدينة ومحلاتها وأسواقها، في مجالات البناء، والزراعة والصيد البحري، والخدمات، في عمليات البيع والشراء، في كل شيء، إلى درجة بات فيها هؤلاء الوافدون يسيطرون على المعاملات التجارية في سوق الخضار وسوق الأسماك وأسواق الجملة ما دفع وزارة الاقتصاد والتجارة إلى اتخاذ بعض القرارات لتنظيم مجالات عمل وإقامة العمال الوافدين على الأراضي الليبية.
وكان وزير الاقتصاد والتجارة بحكومة الوحدة الوطنية، محمد الحويج، أصدر قرارا بشأن لائحة مساهمة الأجانب وفروع ومكاتب تمثيل الشركات الاجنبية بدولة ليبيا في الحركة الاقتصادية الليبية.
وحدد القرار الذي صدر عام 2022 الأنشطة التي يحظر على الأجانب مزاولتها واقتصار ذلك على المواطنين الليبيين، منها تجارة الجملة والتجزئة وأعمال الاستيراد والتصدير والخدمات التموينية وغيرها من الأنشطة الاقتصادية.
كما حدد القرار نسبة العمالة الوطنية بما لا يقل عن 75 بالمائة من عدد العاملين بالكيانات الاقتصادية على أن تلزم الشركات بتدريب 20 بالمائة من إجمالي عدد العاملين من العناصر الوطنية.
وقال المصري إبراهيم علي (24 عاما من قرية دمشير في صعيد مصر – محافظة المنيا – 268 كلم جنوب القاهرة، باحث عن فرصة عمل بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة والبطالة وغلاء المعيشة في بلاده) في تصريح لصحيفة الأنباء الليبية ” تواصلت مع شخص في قريتنا لتسفيري إلى ليبيا للعمل، وهو ينشط في شبكة لتهريب البشر مقابل المال، فطلب مني مبلغ 12 ألف جنيه ، وبعد أن قبض المبلغ قام بإرسالي إلى مدينة مطروح على الحدود الليبية – المصرية حيث التحقت بعشرات المواطنين الآخرين وتم تجميعنا في مخزن، (وهو مبني يطلق عليه بالعامية هنقر من الصفيح) وكان عددنا حوالي 100 شخص من مدن مختلفة في مصر.
وأضاف أن مشرفي الرحلة قاموا بتوزيعنا على مجموعات تتكون من 10 إلى 15 فردا يقودهم شخص يسمى الدليل، قبل أن تبدأ رحلة عبور الحدود الليبية المصرية عند الساعة 9 ليلا حيث كان الظلام حالكا والسماء خالية من القمر.
وقال إن المهربين يختارون دائما توقيتا معينا لتهريب البشر يكون في بداية أو نهاية الشهر القمري حيث يختفي القمر وينتشر الظلام مشيرا إلى أن مجموعته انطلقت من منطقة صحراوية جنوب مدينة مطروح سيرا على الأقدام يقودها دليل، وعند محاولة العبور حدث اشتباك، فيما يبدو، بين مهربي السجائر وحرس الحدود وبدأ التراشق بينهم بالرصاص الحي”.
وتابع “طلب الدليل عدم التوقف والاستمرار في الركض إلا إذا توقف هو ليستريح ويلتقط أنفاسه، ومن ثم نتابع الركض وبعد فترة تعبت ولم أستطع مجاراة الدليل في خفته وسرعة ركضه بسبب ثقل وزن حقيبتي، ما سبب تخلفي عن المجموعة علاوة عن حالة الخوف التي انتابتني من حرس الحدود فيما كانت أصوات الرصاص تشق صمت الليل بالقرب منا والظلام دامسا بحيث لا أكاد أن أرى موطئ قدمي”.
واستطرد إبراهيم في سرد قصته “شعرت أني تائه، الساعة تشير إلى الثانية والنصف ليلا وانقطعت تغطية الاتصال … واصلت الركض وحدي لساعات ولا أعرف كم قطعت من المسافات إلى أن رأيت ضوء من بعيد فاتجهت نحوه بعد أن تملك مني التعب والعطش وأنهكت … ألقيت حقيبتي واستلقيت على الأرض بعد أن رأيت شخصا كان واقفا أمام بيته يتحدث عبر هاتفه”.
وواصل أنه طلب من الرجل بعد أن أنهى مكالمته جرعة ماء فأحضرها إليه قائلا: “أستطيع تسليمك للأمن”. فأجبته” إما أن تسلمني وإما أن تساعدني”، فسألنى من أين أتيت فأشرت إلى الاتجاه فقال: ” إنها منطقة مزروعة بالألغام لقد نجوت بأعجوبة”.
يُشار إلى أن المنطقة الصحراوية التي تفصل بينا ليبيا ومصر زرعت بألغام مضادة للأفراد والآليات خلال الحرب العالمية الثانية وأثناء احتلال إيطاليا لليبيا وخلال الحرب الليبية المصرية عام 1977 ولم يتم نزعها إلى يومنا هذا.
واسترسل المواطن المصري:” بعد فترة بسيطة عادت التغطية ورن هاتفي وكان الدليل … سألني عن مكاني قلت لا أعرف أين أنا، طلب أن أوصله بالشخص الذي أمامي وبالفعل تحدثا مع بعضهما بلهجة ليبية وطلب مني الدليل أن أبقى مكاني إلى أن تأتي سيارة لنقلي، وبعد ساعة جاءت سيارة ونقلتني من مدينة السلوم إلى مدينة امساعد حيث تم تجميعنا بعد ذلك في شقة تحت الإنجاز وتخلف اثنان من مجموعتي وبسؤالي عنهما عرفت أن أحدهما قبض عليه حرس الحدود والآخر لا يعرفون عنه شيئا”.
وأكمل سرده قائلا:” بدأت رحلتي اليوم الثاني حيث تم نقلي إلى مخزن فيه أعداد كبيرة من المصريين، وزعوا علينا خبزا وقطع جبنة … نمت بعدها من شدة التعب”.
وأضف “بعد ذلك نُقلنا على متن سيارة وكان عددنا 16 شخصا، معنا سيدة واحدة واثنان من الإخوة السودانيين، وكان المهربون ينقلوننا من سيارة إلى أخرى ، وعند وصولنا لأي منطقة يضعوننا داخل مخزن ويطلب منا السائق بعدم الإتيان بأي صوت أو الخروج من المكان إلى أن تأتي سيارة أخرى أو سيارتان بحسب عدد الموجودين في المخزن لنقلنا إلى مكان آخر، إلى أن وصلنا إلى مدينة المرج ومنها إلى بنغازي حيث انتظرت 15 يوما بحثا عن فرصة عمل، وحاليا أعمل في مجال صيد الأسماك”.
وفى رد للسلطات المسؤولة قال مدير المكتب الإعلامي بجهاز البحث الجنائي وليد العرفي لصحيفة الأنباء الليبية”: إن هدفنا في لجنة الحصر الأمني والمعلوماتي الخاصة بالعمالة الوافدة حصر هذه العمالة المتواجدة داخل الأراضي الليبية وتكوين أرشيف أمني نرجع إليه في حال ارتكب العامل الوافد أي تجاوز أمني حيث، ويسهل علينا هذا الأرشيف تحديد مكان وجود المطلوب عن طريق الكفيل سواء كان شركة أو شخص وفي حال ثبت إصابة العامل بمرض معدي يتم ترحيله حسب الإجراءات المتبعة”.
وأوضح أن بطاقة الحصر التي تصدر للعامل مدتها سنة من تاريخ صدورها وتجدد لسنة أخرى ويُلزم العامل بالفحص الطبي داخل مقر اللجنة.
ولاحظت مراسلة لصحيفة (الأنباء الليبية) تتابع ملف العمالة الوافدة، أنه إلى جانب مسالك دخول البلاد بطرق غير شرعية عبر شبكات لتهريب البشر، تُوجد عدة طرق أخرى قد تتخذ أشكالا رسمية أو شبه رسمية.
وروى محمود توفيق (35 عاما من مدينة الإسكندرية ويعمل في مجال صناعة الرخام والجرنيت) لصحيفة الأنباء الليبية أنه دخل البلاد بطريقة نظامية عبر مطار بنينا الدولي.
وقال: ” عندما قررت المغادرة إلى ليبيا بحثا عن فرصة عمل تحصلت على رقم هاتف من صديق أخبرني أن صاحب الرقم يقوم بتسفير من يريد إلى ليبيا ، وبالفعل اتصلت بالرقم وطلبت من صاحبه أن يساعدني في السفر إلى ليبيا فقال لي إذا كنت تريد السفر إلى مدينة بنغازي فالقيمة المطلوبة هي 35 ألف جنيه والسفر إلى طرابلس يكلف 41 ألف جنيه”.
واستطرد” وافقت على السعر المحدد فطلب مني تحويل المبلغ على حساب رقم التلفون وإرسال صورة من جواز سفري ، ومن ثم حدد لي يوما لأكون متواجدا في مطار برج العرب للسفر، وعند وصولي إلى المطار لم يكن معي غير جواز سفري وحقيبة ملابسي.
وقفت في طابور المسافرين وعند وصولي للشباك أخذ مني الضابط جواز سفري وختمه بختم الخروج ووضع بداخله بطاقة الصعود وتذكرة السفر المحجوزة مسبقا على إحدى شركات خطوط الطيران الليبية وطلب مني الانتظار في صالة المسافرين ،وقبل صعودي إلى الطائرة قام أخي بتحويل القيمة المتفق عليها إلى صاحب الرقم وغادرت الأراضي المصرية إلى مدينة بنغازي.
وبمجرد وصولي استكملت إجراءات الدخول إلى بنغازي حيث جاء أحد الضباط وأخذ مني الجواز وطلب أن أنتظر إلى حين التأكد من كوني دفعت كامل المبلغ ومن ثم أعاده إلي وسمح لي بالخروج … وحاليا أعمل في مصنع للرخام والجرانيت بعد أن تحصلت على بطاقة حصر العمالة واستخرجت الشهادة الصحية”.
دخل محمد مدحت، البالغ من العمر 38 عاما والمقيم في القاهرة، الأراضي الليبية بطريقة غير شرعية تختلف عن سابقيه.
وأوضح مدحت لصحيفة (الأنباء الليبية) أنه اتفق مع شخص مصري ليساعده على السفر الى ليبيا فقام بربطه عن طريق الهاتف مع شخص ليبي.
وقال: “بمجرد وصولي إلى مدينة مطروح تم نقلي إلى مكان في الصحراء استعدادا لعبور الحدود سيرا على الأقدام مع آخرين سبقوني، وعندما وصلنا إلى مدينة امساعد وضعونا داخل مخزن وجاء الشخص الليبي الذي اتفقت معه عبر الهاتف واستلمني من المخزن ووضعني في صندوق سيارته ووضع فوقي بضائع وأغراض كثيرة اختبأت بينها وكان معه زوجته في السيارة “.
يُذكر أن أفراد الأمن الليبيين نادرا ما يقومون بتفتيش سيارات العائلات، وهكذا تمكن مدحت من السفر من امساعد إلى بنغازي بأمان.
وأفاد العامل المصري أن رحلته إلى بنغازي كلفته 15 ألف جنيه سيقوم بسدادها من عمله وقال ” أنا متواجد حاليا في حي شبنة في بنغازي وأبحث عن فرصة عمل”.
بدأ ملف العمالة المصرية الوافدة يفرض نفسه على المستويين الرسمي والشعبي نظرا للتدفق الهائل لهؤلاء العمال الذي لا ينقطع وبات شخوصه يُعدون بالملايين، سواء من الذين يعبرون الحدود في إطار الهجرة السرية، أو أولئك الذين يتم استقدامهم جوا عن طريق مكاتب خاصة بطرق شبه رسمية مقابل مبالغ مالية.
وتُطالب العديد من الأصوات في الشارع الليبي بضرورة وضع ضوابط وقوانين تحكم كافة الأطراف في سوق العمل الليبي، تضمن حقوق العمال سواء المصريين أو الأجانب عموما، وتوفر لهم سبل الحياة الكريمة، وتمنع إغراق ليبيا بالباحثين عن العمل ما يُربك الوضع الاقتصادي الهش للبلاد ويزيد من انتشار الجرائم والأمراض.
وترى العديد من مؤسسات المجتمع المدني أن تنظيم سوق العمل الليبي وتوافد العمالة وفق اتفاقيات رسمية تقنن أوضاعهم، أمر مهم للغاية، إلا أن استمرار الانقسام السياسي، والفشل في تشكيل حكومة موحدة، والانفلات الأمني، وانخراط بعض التشكيلات المسلحة في تهريب البشر، وانعدام ضبط الحدود، يجعل من المستحيل الوصول إلى هذه الأهداف، ويُفاقم مشاكل الأوضاع الأمنية والاقتصادية الهشة في ليبيا.