Skip to content

هل تحوّل الاستهلاك الليبي إلى تفاخري؟

يتعرض المجتمع الليبي منذ عقود لعدد من المؤثرات الداخلية والخارجية التي شكلت نمط الحياة فيه ،واترث على تحديد السلوك الاستهلاكي للافراد ،الذي تحول من سلوك استهلاكي منضبط يقوم على تحديد الاولويات في عملية اقتناء السلع ، الى سلوك غير منضبط يركز في الانفاق على استهلاك السلع الاساسية والكمالية بافراط وعادة لاتكون ضرورية لاشباع حاجاتهم ، وبما يفوق قدرتهم المالية ودخولهم الشهرية. هذا ما اثر سلبا على شكل الاقتصاد الليبي، وحوله الى اقتصاد استهلاكي غير منتج ،يعتمد على الانفاق المفرط للأفراد ،ويحد من القدرة على الانتاج .

 

تطور الانفاق الاستهلاكي للافراد في ليبيا:

 

تأثر الانفاق الاستهلاكي للأفراد والأسر الليبية بالمراحل التاريخية التي مرت بها ليبيا وانعكاس كل مرحلة على الواقع الاقتصادي والحياتي.

فقبل اكتشاف النفط في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي كان الاقتصاد الليبي اقتصاد كفاف ولذلك كان يتمتع بدرجة عالية من الاكتفاء الذاتي فيما يتعلق بالمواد الاساسية ، و كان الافراد يعانون من صعوبة الحياة ،وقلة الدخل ، وانتشار الفقر ،فكان نمط الاستهلاك بسيطا وبالكاد يفي بأبسط ضرورات الحياة ،وبسبب انخفاض مستوى الدخل كان الطلب على السلع منخفضا ،مما خلق حالة من التوازن بين الانتاج والاستهلاك.

لكن مع اكتشاف النفط وانتعاش خزينة الدولة ،اصبح التطلع الى مستوى معيشي افضل مطلبا دائما للأفراد وللمجتمع الليبي ككل ،مما انعكس على مستوى الاستهلاك الذي بدأت تظهر بعض ملامحه من خلال الميل الى الحصول على كميات اكبر من السلع الاساسية والكمالية .

ومع مطلع التسعينيات ومع تغير التوجهات الاقتصادية من الاشتراكية التي كانت تحكم نمط الاقتصاد الليبي ،الى الليبرالية ،حيث توقفت استثمارات الدولة في بعض المشروعات وشجعت الافراد على الاستهلاك ، مما ساهم في ارتفاع نسبة الاستيراد للسلع الاساسية وحتى السلع الكمالية ،وبدأ يظهر نمط استهلاكي يرتكز على المظاهر الخارجية خاصة خلال السنوات الاخيرة التي ظهرت فيها طبقة طفيلية استغلت الظروف السياسية التي تمر بها البلاد للإثراء السريع ،وبدا الافراد يتهافتون على الحصول على المنتجات الغربية بمختلف الطرق ،والتباهي بها رغم اختلاف الاحتياجات الفردية للسلع ،والمبررات لاقتنائها، مما ادى الى زيادة الانفاق الاستهلاكي ،وادى الى ما يمكن ان أسميه بالاستهلاك التفاخري .

مظاهر الاقتصاد التفاخري

يمكن تعريف الاستهلاك التفاخري بانه حصيلة ماينفقه الافراد على استهلاك السلع بما يفوق قدراتهم الشرائية ،وحجم مرتباتهم الشهرية ،ومدخراتهم ،ويحملون انفسهم ديون لمُجاراة الفئات الاكثر قدرة شرائية ،بهدف التباهي والتفاخر ،ورغبة في اشباع حالة نفسية.

ويبرز نمط الاستهلاك التفاخري في الحصول على السلع الكمالية المستوردة ، واقامة الحفلات والاسراف في الانفاق خلال شهر رمضان حيث اظهرت بعض الاحصائيات ان الاسر تنفق 2500دينار في المتوسط على شراء السلع الغدائية خلال هذا الشهر ،فيما تتراوح قيمة الشراء اليومي للسلع الاستهلاكية من 70الى 100دينار يوميا.

ومما سبب في زيادة الاستهلاك التفاخري الانفتاح التي ابدته الدولة في السنوات الأخيرة، واتجاهها الى استيراد السلع عن طريق منح الاعتمادات لعدد من الشركات دون ان تحدد اولويات لاستيراد السلع ،ووفق ضوابط تحمي المستهلك ،ولا تؤدي الى استنزاف دخله او مدخراته على شراء سلع ليس في حاجة لها ،خاصة وان ليبيا تعتمد وبشكل مباشر على استيراد السلع من الخارج في مجمل ما تستهلك من دول مثل تركيا والصين وبعض الدول الاوروبية مثل ايطاليا .

وعلى سبيل المثال وصل حجم التبادل التجاري بين ليبيا وتركيا الى مليار و300مليون دولار العام 2012، وهذا الرقم يتزايد بشكل حاد سنويا ، مع الأخذ في الاعتبار ان جل هذا التبادل يستهدف سلع استهلاكية تشجع الافراد على الانفاق ،وعليه يمكن القول ان الافراد ليسوا وحدهم المسئولين عن انتشار ظاهرة الانفاق الاستهلاكي ،بل وايضا السياسات الاقتصادية للدولة هي المسئولة ايضا عن هذه الظاهرة .

مخاطر الانفاق الاستهلاكي

ان التغيرات التي يشهدها المجتمع الليبي تؤثر في سلوكيات الافراد ، وفي نمط الانفاق الاستهلاكي لديهم، وهذا كله ينعكس على قدراتهم الشرائية ،وقد حذر تقرير صادر عن منظمة الاغدية والزراعة الذي كشف ان 31%من الاسر الليبية ينفق افرادها ما يزيد عن 61% من دخلهم الشهري في شراء السلع الاستهلاكية (تقرير صادر عن منظمة الاغذية والزراعة ،الفاو ) .

وحسب استاذ الاقتصاد علي الماقوري ان الانفاق الاستهلاكي للأسر يزداد خلال شهر رمضان المبارك بنسبة تصل الى 30%، ومع انخفاض الدخول الحقيقية فإن ذلك يؤثر على مستوى معيشتهم .

إن الافراد ينفقون ثلث دخلهم على الغداء مما زاد من الاحتياجات الانسانية خلال العام الحالي 2023بنحو 300الف شخص اي في حدود 4%من عدد السكان ،وبنسبة انخفاض تصل الى 6%عن العام 2022الذي كان في حدود 800000 الف شخص اي بنسبة تصل الى 10%من عدد السكان .وهذه الارقام تعكس المخاطر التي يخلفها الانفاق الاستهلاكي على الافراد ،وعلى الاسر ،وبما يؤدي الى تحويل الاقتصاد الى اقتصاد انفاقي غير منتج، وهذا ما يؤكده الخبير الاقتصادي نور الدين حبارات الذي يشير الى ان الانفاق الاستهلاكي في ليبيا يلعب دورا سلبيا ويشكل عبئا على خزينة الدولة ،وان دخول ومرتبات الافراد يثم إنفاقها على سلع يتم إستيراد اغلبها من الخارج.

لقد أدى التوجه الليبرالي للدولة في غياب الفاعلية الاقتصادية الى ازمة خانقة لدى بعض الاسر ،والمناطق في ليبيا ومن مظاهرها تدني مستوى المعيشة، والبطالة لدى فئة الشباب ،وتتجلى المشكلة الاكبر في ارتفاع الرغبة في الاستهلاك ،في الوقت الذي تتراجع فيه القدرة الاقتصادية المخصصة لتلبية الحاجات الاستهلاكية للأفراد .

إن ما يساهم في ظهور مشكلة الانفاق الاستهلاكي انها ترتبط بقيم راسخة لدى الفئات الاجتماعية خاصة الفئة المترفة ،التي تتباهى بنمط حياتها الاستهلاكي .هذا بالإضافة الى النماذج الثقافية التي اصبحت تروجها وسائل الاعلام خاصة الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد على الابهار في الدعاية والاعلان .كما ان هذه الظاهرة تعمل على تبدد الطاقات الاقتصادية دون جدوى ،وتوثر على قدرة الافراد الشرائية ،وتحملهم الديون، وتدفعهم الى الاقتراض مع غياب القدرة على السداد احيانا ،وتتسبب في التباعد بين الفئات الاجتماعية حيث تظهر عدة نماذج استهلاكية متباعدة ،مع هيمنة الفئة المترفة اقتصاديا التي تحاول فرض قيمها ونموذجها الاستهلاكي في الانفاق . ولا يقتصر تأثير الانفاق الاستهلاكي على الافراد انفسهم، او على الاسر .بل ايضا يصيب الاقتصاد بتحويله الى اقتصاد انفاق استهلاكي غير منتج ،ويؤدي الى استنزاف الخزينة العامة في الصرف على سلع لا تساهم في تحريك الاقتصاد ،وبالتالي يزداد الضغط على قطاع النفط الذي يشكل مانسبته 95% للدخل ،ولا يسمح للدولة برسم الخطط التي تستهدف قطاعات اخرى يمكن التعويل لخلق اقتصاد تنموي منتج .

 

د مسعود المهدي السلامي  

استاذ الاقتصاد السياسي  

 

أشهر في موقعنا