Skip to content

أزمات تواجه تعدين الذهب .. صراعات جيوسياسية واضطراب إمدادات واحتكار

“إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع”، واحدة من الحكم العربية الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان، وفي عالم اليوم ربما يفسر تلك الحكمة ولو جزئيا فشل الحملة الدولية التي شنها عدد من الباحثين في جامعة أكسفورد العام الماضي ضد صناعة التنقيب على الذهب.
القصة باختصار أن عددا من الباحثين في كلية سميث في جامعة أكسفورد البريطانية، دعوا إلى إنهاء عمليات التعدين عن الذهب دوليا، بدعوى أن الذهب المعاد تدويره كاف لتغطية احتياجات السوق العالمية، أما سبب الدعوة فيعود إلى أن البصمة المائية للمعدن النفيس كبيرة جدا، فكيلوجرام واحد من الذهب يتطلب في المتوسط 265 ألف لتر من الماء لإنتاجه، وبينما يستخدم المعدن في الصناعات التكنولوجية، فإنه يتم تخصيص 8 في المائة فقط منه على مستوى العالم لهذا الغرض، بينما يتم تصنيع 92 في المائة سنويا في المجوهرات أو يخبأ في الخزائن سواء في البنوك أو المنازل.
ولأن ما يطلبه الباحثون أكثر من قدرة أو استطاعة الشركات الدولية تلبيته، لأنها لا تستطيع أن تفقد الأرباح التي يحققها عشق مليارات البشر للذهب، فإن الدعوة لم تجد أصداء لها على أرض الواقع، مع هذا فإن الدعوة كانت مفيدة لفتح الأعين على طبيعة التحديات والمشكلات التي تواجه صناعة التعدين عن المعدن النفيس، إضافة إلى أنها كانت سببا في طرح تساؤلات متعلقة بمستقبل التنقيب عن المعدن الثمين.
جزء رئيس من مشكلات التعدين عن الذهب تنتمي في الحقيقة إلى نطاق عريض من المشكلات والتحديات التي تواجهها صناعة التعدين بصفة عامة.
وقال لـ”الاقتصادية” الدكتور إم. دي ويننج، أستاذ اقتصادات العمل في جامعة لندن، “تاريخيا كانت القوة العاملة المدربة محركا أساسيا للإنتاجية في مجال التعدين، والآن يوجد نقص عالمي غير مسبوق في المهارات بالنسبة إلى صناعة التعدين، وهناك حاجة ضرورية وعاجلة لأن يكون رفع المواهب إحدى النقاط الأساسية على جدول أعمال صناعة التعدين عامة والذهب على وجه الخصوص”.
ويستدرك قائلا “حاليا يعمل نحو 100 مليون عامل عبر العالم في صناعة التعدين، وبالنسبة إلى التعدين في مجال الذهب هناك اتجاهات متداخلة تحدث تغييرات بعيدة المدى داخل القوى العاملة في مجال التعدين، وفي مقدمتها طبيعة العمل نفسه حيث يلاحظ أن هناك زيادة وتركيزا متناميا على الأتمتة والحاجة إلى الذكاء الاصطناعي، ومن ثم هناك حاجة ماسة إلى رفع مستوى الكفاءة عبر تدريب العاملين، ودون ذلك لن تكون هناك إمكانية لزيادة إنتاج الذهب عالميا، وسيكون هناك استنزاف للموارد دون الوصول إلى الاستفادة القصوى منها”.
ربما تكون قضية كفاءة العمالة وتدريبها على وسائل التعدين الحديثة واحدا من عوامل متعددة تمثل تحديا لشركات التنقيب عن الذهب، ولا شك أن مساعي شركة نيومونت الأمريكية أحد أكبر منتجي الذهب في العالم لشراء شركة نيو كريست للتعدين الأسترالية في صفقة بقيمة 17.5 مليار دولار وتعد أكبر صفقة اندماج وشراء على الإطلاق في صناعة تعدين الذهب، تكشف بوضوح كيف يسعى منتجو الذهب في العالم إلى عقد الصفقات على أمل أن يساعد ذلك في تحقيق اكتشافات كبيرة في المعدن النفيس.
من جانبه، يرى سيمون ستانلي المحلل المالي في بورصة لندن للمعادن البريطانية، أن قطاع التعدين عامة والذهب على وجه الخصوص يشهد موجة من إبرام صفقات لم يشهدها منذ أعوام، على عكس الركود في نشاط الاندماج والاستحواذ العالمي، ويشير إلى أن شركة نيومونت كانت نشطة في سعيها للحصول على مناجم يمكن أن تحل محل العمليات القديمة وأن تنجح في خفض التكاليف، إلا أنه يشير إلى جانب آخر يعزز جهود شركات التنقيب عن الذهب في المضي قدما في مزيد من عمليات الاندماج والاستحواذ.
وقال ستانلي لـ”الاقتصادية” إن “الاتجاه الراهن لمزيد من الاندماج بين شركات التنقيب على المعدن الأصفر يأتي في جزء كبير منه من ارتفاع سعر الذهب خلال جائحة كورونا، وهذا أدى إلى تجدد الاهتمام بمشاريع التنقيب، حتى أن التعدين غير القانوني ازدهر على مستوى العالم خاصة في غابات الأمازون”.
وأشار إلى أن الحكومات اقترضت مبالغ ضخمة لدفع تكاليف خطط الاستجابة للتعامل مع فيروس كورونا، وقامت بطبع كثير من الأموال لسد العجز المالي، وهذا يعني أن قيمة العملات باتت متقلبة، ما يجعل الناس ينظرون إلى الذهب باعتباره أصلا مستقرا وله كميات محدودة، ويرجح المستثمرون زيادة الطلب مستقبلا باعتباره أصلا جديرا بالثقة، وإذا لم تقم شركات التنقيب بممارسة عملها على نطاق واسع فإن صناعة الذهب ستواجه أزمة حقيقية.
ويواصل قائلا “اقتصادات الاستثمار في إنتاج الذهب معقدة وعمليات التعدين تتضمن التزامات قانونية طويلة الأجل، والذهب معدن نادر والأغلبية العظمى من أنشطة التنقيب لا تسفر عن إنتاج كميات ذات طابع تجاري، وقد يستغرق الأمر عشرة أعوام لتطوير منجم ذهب واسع النطاق، وهذا كله يجعل تحدي التكلفة تحديا رئيسا أمام شركات التنقيب عن المعدن الأصفر، ويدفعها إلى القيام بعملية استحواذ أو دمج بأساليب شرسة للغاية”.
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن التحدي الأساسي الذي سيواجه شركات تعدين الذهب من الآن ولأعوام مقبلة يكمن في الأساس في تفاعلات الجغرافيا السياسية التي باتت تلعب دورا رئيسا في تحديد مسار الاقتصاد الدولي.
وشركات التنقيب عن المعادن عامة والذهب على وجه الخصوص تتأثر بشدة بالحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا، فضلا عن التوترات بين الولايات المتحدة والصين، فبالنسبة إلى الحرب الروسية – الأوكرانية، فإن روسيا تعد من أكبر منتجي الذهب في العالم، بينما تعد الصين في مقدمة المستهلكين، لهذا فإن تضمين المخاطر الجيوسياسية بات اليوم جزءا رئيسا في التخطيط العام لشركات التنقيب عن الذهب.
ومع وجود عديد من العوامل الجيوسياسية الخارجة عن سيطرة شركات التعدين، فإنه من الصعب التخفيف من تلك المخاطر أو تحديد تكلفتها الواقعية، ففي كثير من الأحيان سيكون من مصلحة شركات التنقيب عن الذهب إقامة علاقات أوثق مع حكومات أو أسواق استهلاكية.
وهذا الخلط بين السياسي والاقتصادي، والإعلاء من شأن السياسي على الاقتصادي، والابتعاد عن قيم السوق الحر لمصلحة الأيديولوجية يمثل تحديا غير مسبوق لكثير من شركات التنقيب عن الذهب.
وفي الواقع فإن اضطراب سلاسل التوريد ربما يكون أمرا جديدا لم تألفه شركات المعادن عامة، وإذا كانت بدايات الاضطراب تعود إلى جائحة كورونا، فإن جزء كبير أيضا يعود إلى الصراعات الدولية التي وقعت أخيرا، وعلى الرغم من أن شركات التنقيب عن الذهب تكثف ضغوطها للحيلولة دون تأثرها بعدم الانضباط في سلاسل التوريد، فإن الأمر قد يتطلب منها مستقبلا منهاجا أكثر ابتكارا وتطورا للتخفيف من حدة المخاطر.
وهنا ذكر لـ”الاقتصادية” ألبرت جوزيف الباحث في الاقتصاد الدولي، “في آذار (مارس) من العام الماضي وبعد فرض عقوبات على روسيا من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، علقت هيئة سوق لندن للسبائك التعامل مع ست مصافي ذهب وفضة روسية، ما يعني أن أي سبائك جديدة تنتجها لن يتم قبولها للتسوية في بريطانيا”.
وأوضح “إذا اخذنا في الحسبان أن لندن تمثل نحو 70 في المائة من إجمالي تجارة الذهب بالجملة وفقا لمجلس الذهب العالمي، فيمكننا فهم تأثير ذلك في شركات التنقيب على الذهب”.
وأضاف “دخول الصراع الجيوسياسي على خط إنتاج الذهب عالميا حتما سيصيب كثيرا من شركات التنقيب عن المعدن بالارتباك والضرر، خاصة أن الولايات المتحدة وحلفاءها فرضوا عقوبات على شركة Polyus أكبر منتج للذهب في روسيا تليها شركة Polymetal، في ظل أن روسيا تنتج نحو 10 في المائة من الذهب العالمي.
ويختتم قائلا “شركات التنقيب الدولية الكبرى على الذهب عليها أن تجد حلولا للأضرار الناجمة عن استبعاد أحد أكبر المنتجين من السوق، وأن تضع في حسبانها البحث عن استراتيجية يقوم جوهرها على حل تحدي نقص العمالة الماهرة، واحتدام عمليات الاستحواذ واتجاه سوق التنقيب لمزيد من الاحتكار، في ظل أن الصراع الجيوسياسي سيستمر لفترة طويلة، ودون ذلك فإن صناعة التنقيب عن الذهب التي تعد القاطرة التي تجر الصناعة قد تواجه تحديات لم تألفها من قبل”.

أشهر في موقعنا