Skip to content

الكابلات البحرية .. حرب تحت الماء

رب شبه سرية يدور رحاها في مناطق متعددة من العالم أبرزها منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ولكن بدلا من الرصاص والقنابل، فإن الخصوم يستخدمون الأسلحة الرقمية بهدف التحكم في تدفق البيانات الضخمة حول العالم.
في الوقت الراهن هناك أكثر من 486 كابلا تحت سطح البحر، تمتد عبر قيعان البحار والمحيطات لمسافة تزيد على 900 ألف ميل وتنقل أكثر من 95 في المائة من جميع حركة البيانات المتداولة عبر الإنترنت على مستوى العالم.
ويتم التحكم بالجزء الأكبر منها بواسطة عدد قليل من عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة أبرزها شركة ألفابت الشركة الأم لمحرك البحث جوجل، وشركة ميتا “فيسبوك سابقا” وشركتا أمازون ومايكروسوفت.
وفي عصر الإنترنت، فإن نقل كل شيء من رسائل البريد الإلكتروني والمعاملات المصرفية – تعالج هذه الشبكة ما قيمته عشرة تريليونات دولار من التحويلات المالية عبر نظام سويفت يوميا- والأسرار العسكرية والمعلومات عن آخر الابتكارات والصفقات التجارية يتم عبر تدفق البيانات، التي تمر من خلال تلك الكابلات البحرية، وبذلك بات من الضروري حماية تلك البنية التحتية، حيث إن تعرضها للتخريب يعني هزة ضخمة للاقتصاد العالمي، ومن يسيطر عليها فقد نجح ولا شك في الإمساك بالقلب النابض للاقتصاد العالمي.
أخيرا أجرت الولايات المتحدة والفلبين أكبر المناورات العسكرية على الإطلاق في بحر الصين الجنوبي، وتلتها مناورات صينية – سنغافورية كانت الأولى من نوعها منذ 2021، حيث تسعى بكين لتعزيز علاقاتها الدفاعية والأمنية مع بلدان جنوب شرق آسيا، وكانت المناورتان كافلتان بزيادة التوتر بشأن لمن ستؤول السيطرة على بحر الصين الجنوبي أحد أهم ممرات الشحن البحري في العالم.
يشير الخبراء إلى أن من يفرض سيطرته على بحر الصين الجنوبي سيكون بمقدوره السيطرة عمليا على خمس التجارة العالمية، لكن الأهم من وجهة نظر كثير منهم أن أبرز الأصول الاقتصادية المتاحة في المنطقة هي البيانات الضخمة، حيث يعمد مستقبل الإنترنت بأكمله على الدول التي تهيمن على بحر الصين الجنوبي، يضاف إلى ذلك أن اقتصاد الإنترنت في منطقة جنوب شرق آسيا سيصل إلى تريليون دولار أمريكي بحلول 2030.
اكتسبت الولايات المتحدة اليد الطولى في السيطرة على كابلات الإنترنت العالمية الممتدة عبر قيعان المحيطات، لكن الأمر يتغير الآن تدريجيا، فقد باتت منطقة بحر الصين الجنوبي ساحة لصراع شديد بين الولايات المتحدة والصين بشأن كابلات الإنترنت البحرية، ويوما بعد آخر تزداد حدة المنافسة، خاصة مع ظهور شبكات الجيل الخامس من الإنترنت التي تستهلك كميات كبيرة من البيانات المنقولة عبر الكابلات من أجل العمل بكفاءة.
ويزداد الطرفإن إدراكا بأن التحكم في الكابلات البحرية سيمكنهما من الوصول إلى الأسواق والخدمات الرقمية للشركات والمستهلكين، وسيمنح التحكم في الكابلات الراقدة في قيعان البحار والمحيطات ميزة تنافسية في تقديم خدمات إنترنت أسرع وأكثر موثقية لمناطق مختلفة حول العالم.
في الأعوام الأربعة الماضية، وفيما لا يقل عن ست صفقات خاصة بالكابلات البحرية تدخلت الحكومة الأمريكية لإبقاء شركة “إتش إم إن” الصينية خارج أعمال الكابلات البحرية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والشركة الصينية يسطع نجمها بقوة في عالم صناعة الكابلات البحرية، وتعد من الشركات التابعة لعملاق التكنولوجيا الصينية هواوي الخاضعة للعقوبات الأمريكية.
ونظرا لأن التطور التقني الراهن يشير إلى أن الكابلات البحرية ستواصل العمل لتكون عصب عملية نقل البيانات على مستوى العالم حتى مع إطلاق كثير من الأقمار الاصطناعية، إذ إن قدرة كابل بحري واحد لا تزال أكبر بكثير من قدرة عدد مجتمع من الأقمار الاصطناعية، ويمكن للكابلات أن تحمل بيانات أكثر بكثير بتكلفة أقل بكثير من الأقمار الاصطناعية، فإن المتوقع أن تزداد المنافسة الصينية الأمريكية حدة وشراسة بين الطرفين في هذا المجال الاستراتيجي.
في شهر أبريل الماضي نشرت وكالات الأنباء خبرا مفاده أن شركة “إتش إم إن” تخطط لإنشاء كابل بحري بقيمة 500 مليون دولار يحمل اختصار اسم EMA -الأحرف الأولى من أوروبا والشرق الأوسط وآسيا- لربط القارات الثلاثة، لمنافسة مشروع مماثل تدعمه الولايات المتحدة، لوضع كابل بحري بقيمة 600 مليون دولار لنقل البيانات من آسيا إلى أوروبا عبر إفريقيا والشرق الأوسط بسرعات فائقة لمسافة تزيد على 12 ألف ميل من الألياف التي تمتد عبر البحار والمحيطات على أن يتم الانتهاء منه 2025.
يقول لـ”الاقتصادية” البروفيسور إم. دي آرثر، أستاذ السياسة الدولية في جامعة أكسفورد “الكابلات البحرية جزء حيوي من البنية التحتية للاتصالات العالمية، وفي مارس الماضي أصدر مجلس النواب الأمريكي تشريعا من الحزبين لحماية التفوق الأمريكي في قدرات الكابلات البحرية، سواء في النطاق الاقتصادي أو العسكري من الجهود الصينية للتمدد في تلك الصناعة. سيتطلب قانون التحكم في الكابلات البحرية من إدارة بايدن تطوير استراتيجية للحد من وصول الصين إلى السلع والتقنيات القادرة على دعم صناعة الكابلات لديها، وكذلك تحذير حلفاء الولايات المتحدة وشركائها من توقيع اتفاقيات مع شركات صينية بهذا الشأن”.
بالتأكيد لم يكن للصين أن تقف في موقف المتفرج في وجه التضيقات الأمريكية عليها في هذا المجال الاستراتيجي، فعملت على أكثر من جبهة عبر إحراز تقدم ملحوظ في السيطرة على الكابلات البحرية في إفريقيا، ومواصلة تحدي الهيمنة الأمريكية على البنية التحتية للإنترنت في آسيا، بإعاقة مشاريع مد كابلات الإنترنت تحت سطح البحر وصيانتها في منطقة بحر الصين الجنوبي والمرتبطة بالمصالح الأمريكية، وذلك عن طريق تأخير موافقات الترخيص وفرض قيود تشغيل أكثر صرامة.
تتوقع الدكتورة ماتيلدا كريس، الخبيرة في الاقتصاد الدولي في معهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية أن تزداد حدة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، فيما يتعلق بصناعة الكابلات البحرية في الأعوام العشرة المقبلة، وأن تسعى الولايات المتحدة إلى تطوير طرق للكابلات البحرية تتجاوز السيطرة الصينية.
وتقول لـ”الاقتصادية” إنه “قبل عامين أعلن عملاقا التكنولوجيا الأمريكية فيسبوك وجوجل أول كابل بحري في آسيا يتجنب هونج كونج ولا يمر بالأجزاء المزدحمة من منطقة بحر الصين الجنوبي، ومن المقرر أن يشهد العام المقبل إطلاق مشروع إبريكوت وهو جزء من بينية تحتية جديدة للكابلات البحرية مدعومة من الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ مصممة لتجاوز النفوذ الصيني، ويربط هذا الكابل البحري الذي يبلغ طوله 12 ألف كيلومتر بين اليابان وتايوان وغوام والفلبين وإندونيسيا وسنغافورة”.
وترى الدكتورة ماتيلدا كريس أن الصراع الأمريكي الصيني بشأن كابلات الإنترنت البحرية جزء من صراع على مجموعة من الصناعات الاقتصادية التي تحدد من سيقود عالم المستقبل. فمن وجهة نظرها، تلك المنافسة الحادة امتداد آخر لسباق الرقائق الإلكترونية والمعادن الأرضية النادرة وتكنولوجيا الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي واستكشاف الفضاء، وجميعها مجالات تقنية تشهد منافسة أمريكية صينية عنيفة، لكن الفرق أن تلك المنافسات تجري على اليابسة أم الكابلات البحرية فهي حرب تحت الماء.
مع هذا، فإن هناك بعض الخبراء في مجال الكابلات البحرية يعتقدون أن المنافسة الحالية بين واشنطن وبكين مرجعها إلى صراعات جيوسياسية وليس لأسباب تتعلق بعوامل اقتصادية حقيقية.
يقول لـ”الاقتصادية” المهندس ستيورت ارسينولت، رئيس قسم الكابلات البحرية في شركة إم سي سي للكابلات “هناك مبالغة في مخاوف البلدين من بعضهما بعضا بشأن الكابلات البحرية المتعلقة بالإنترنت. نظريا أي شخص يمتلك نظام كابلات بحرية يمكنه إيقاف حركة المرور في هذا الكابل، وأيضا مراقبة حركة المرور، ولكن هذا لن يكون مجديا اقتصاديا، فإذا قمت بتدمير الكابلات البحرية للخصم أو التجسس عليها فسيكون هو أيضا في مقدوره القيام بذلك، حيث هناك قوة ردع متبادلة إذا جاز التعبير، وهذا ما يجعل النظام الحالي مفتوح”.
ويضيف “بصفة عامة تحدث الأضرار بشكل منتظم للكابلات البحرية، وعدد الكابلات، التي يتم قطعها سنويا يراوح بين 100 و150، والأغلبية العظمى بسبب سفن الصيد والأنشطة البحرية، وترتبط معظم الدول بعشرات من كابلات الألياف الضوئية، لذلك في حال تلف واحد أو اثنين منها، يمكن إعادة توجيه البيانات دون انقطاع، مع هذا أحيانا تحدث انهيارات كبيرة، كما حدث 2008، حيث تم قطع ثلاثة كابلات تربط مصر وإيطاليا، وتم ذلك عن طريق الخطأ، ما تسبب في انقطاع الإنترنت بين أوروبا والشرق الأقصى، وكان له تأثير غير مباشر على العمليات العسكرية الأمريكية في العراق حينها”.
يدعم بعض الخبراء الاقتصاديين وجهة النظر تلك ومن بينهم الباحث الاقتصادي في الشأن الآسيوي كيلر ستيف، حيث يقول لـ”الاقتصادية”، إن “حدة المنافسة الأمريكية الصينية في مجال الكابلات البحرية لم تظهر سوى في الأعوام الأخيرة، فنظام الكابلات البحرية الأولية كان يضم أعضاء من عديد من البلدان بما فيها الصين، وكانت الأنظمة تنشأ نتيجة التعاون وتسمى أنظمة الاتحاد، وكان هناك كثير من التعاون في الصناعة، ولم تكن الحكومات تتدخل في هذا الشأن إلا بشكل محدود للغاية، الأمر الآن بخلاف ذلك، إذ تتدخل الولايات المتحدة بقوة لتشككها بأن الصين تقوم بدعم شركاتها لتحظى بمزيد من القوة في تلك الصناعة الاستراتيجية”.
ويرى كيلر ستيف أن زيادة الاعتماد على الكابلات البحرية في عالم الإنترنت يتطلب مزيدا من التعاون بين الدول للحصول على تصاريح للمضي قدما في المشاريع المختلفة، وأن المنافسة المحتدمة بين الصين والولايات المتحدة أجبرت الطرفين على إدخال تغييرات في مسار كابلات الألياف الضوئية بطريقة تختلف عما كان مخطط له في بداية الأمر، وهذا أدى إلى التأخير في عملية مد الكابلات، واستنزاف غير مبرر للموارد، ورفع التكلفة الاقتصادية، حيث إن القرارات تتخذ لأسباب غير اقتصادية.

إنشرها   
أشهر في موقعنا