يمثل الاستثمار الاجنبي حاجة ملحة للمشاركة في تنمية الاقتصاد الوطني لاي دولة ،لذلك تسعى الدول النامية لاستقطاب الاستثمارات الاجنبية التي تساهم في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ،وتوفر لها الضمانات القانونية والادارية ،لحماية هذه الاستثمارات من المعوقات والمخاطر ،وتهيئ لها المناخ الملائم للعمل والحصول على اكبر عائد مادي ممكن .
ولم تشد ليبيا عن هذا التوجه فقد عملت منذ فترة التسعينات من القرن الماضي على تحرير الاقتصاد جزئيا ،وإعداد التصورات اللازمة ، وتغيير نظرتها للاستثمار الاجنبي ،وعملت قدر الامكان على جذبه والاستفادة منه بما تقدمه من حوافز وتسهيلات وفرص لتسهيل عمله .
ورغم نية الدولة الليبية فتح الباب امام الاستثمار الاجنبي ،وأعلانها في عدة مناسبات عن تحقيق تقدم في هذا الخصوص ،إلا ان ليبيا قد تحتاج الى وقت طويل لبناء شراكة مثمرة مع الاستثمارات الاجنبية،وجذب الشركات والمؤسسات الاجنبية ،بسبب شكل الاقتصاد الليبي المنغلق وحداثة هذا النهج والعوائق التي تقف حجر عثرة امام قدوم الاستثمار الاجنبي وحالة الانقسام السياسي ،وعدم الاستقرارالامني ،وتدني الخدمات المصرفية والفساد الاداري والمالي ،وعدم وجود مؤسسات متخصصة وكفؤة تكون قادرة على التعامل مع الاستثمار الاجنبي بحرفية ومهنية عالية،وعدم وجود استراتيجية لإشراك الاستثمار الاجنبي في القطاعات الصناعية والخدمية والسياحية التي تعمل على تحريك ودعم الاقتصاد .
أهمية الاستثمار الاجنبي :
يقوم الاستثمار الاجنبي بدور المحرك الرئيسي لعملية التنمية الاقتصادية ، ومصدر لجلب رأس المال، ويساهم في نقل وتوطين التكنولوجيا المتقدمة، ومايرافق ذلك من امكانية تدريب العمالة الليبية واكسابها مهارات الانتاج والتسويق بما يفيد في زيادة القدرة الانتاجية للاقتصاد المحلي .
من المعلوم ان ليبيا تحتاج للقدرات التنموية في اغلب القطاعات الانتاجية لاعتمادها شبه الكلي على قطاع النفط، والاستثمار الاجنبي في هذه القطاعات (المهملة) يؤدي الى تنويع وتحسين اداء الاقتصاد، وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر واحد للدخل .وخلق فرص عمل جديدة، ومد الدولة بأساليب ادارية اكثر فاعلية مما يؤهلها للاندماج في الاقتصاد العالمي .كما يساهم الاستثمار الاجنبي بزيادة دخل الدولة وتحسين الاوضاع المعيشية للافراد ،وفتح المجال امامهم للاستفادة من وجود الشركات الاجنبية سواء في ايجاد فرص عمل معها ،او من خلال الدخول في نوع من الشراكة الاستثمارية .هذا علاوة على ان الاستثمار الاجنبي يفيد مؤسسات الدولة والافراد على حد سواء في تعلم الطرق والاساليب التي تستخدمها الشركات الاجنبية في الإدارة والانتاج من اجل تحقيق الربح بابسط الطرق ،وفي الوقت المطلوب ،اي بمعنى ان هذه الشركات الاستثمارية تلتزم بأسلوب التنظيم والادارة العلمية الحديثة لتحقيق النجاح ،وهذا ماتفتقده وتحتاجه المؤسسات الليبية العامة والخاصة .
واقع الاستثمارات الاجنبية في الاقتصاد الليبي:
لايزال الاقتصاد الليبي يعاني من تدني قلة حجم الاستثمارات الاجنبية الواردة اليه من الخارج ،وعدم تنوعها،وعدم استقرارها عند مستوى محدد ،فهي تتسم
بالتذبذب نتيجة حالة عدم الاستقرار السياسي ،علاوة على انها لاتزال محصورة في قطاعات محدودة جداً كالنفط الذي يعتبر أحد أهم القطاعات جذباً للاستثمارات الاجنبيه،
بالاضافة إلي قطاع العقارات ثم قطاع المصارف وإن كان من خلال الشراكة مع بعض المصارف الليبية.
وقد شهدت ليبيا في السنوات الاخيرة انفتاحاً سياسياً واقتصادياً ملحوظاً، خاصة بعد أن حلت قضية لوكربي عام 2003،ورفع الحصار الاقتصادي وحظر الطيران التي كانت مفروض عليها،
وتعتبر ليبيا سوقاً واعدة ومليئة بالفرص الاستثمارية ولها القدرة على جذب الاستثمار الاجنبي ،وتوفير كل متطلباته ،وتمكينه من الاستفادة من الفرص المتاحة .ورغم ضعف حجم الاستثمارات الاجنبية ،وعدم توفر بيانات حديثه لنشاطه خلال السنوات الاخيرة،إلا انه وعلى سبيل المثال يمكن الاشارة الى انها وصلت الى ماقيمته
37504 مليون دولار خلال الفترة (2003_2015) حيث توزعت هذه الاستثمارات على عدد من القطاعات الاقتصادية مثل قطاع العقارات الذي يأتي في المقدمة من حيث اجتذابه للاستثمارات الأجنبيه حيث وصلت الاستثمارات الواردة إليه 22413 مليون دولار أي ما نسبته 59.8% من إجمالي الاستثمارات الاجنبية المباشرة (المؤسسة العربية لضمان الاستثمار ). وقد خصصت الحكومة الليبية عام 2009 أكثر من 51 مليار دينار ليبي لتنفيد المشاريع الخاصة بالاسكان والمرافق في ليبيا ، مما جعل هذا القطاع محل اهتمام المستثمر الاجنبي في ليبيا، أما قطاع النفط والغاز فقد جاء في المرتبة الثانية حيث بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة إليه 10161 مليون دولار، أي ما نسبته 27% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية خلال نفس الفترة .
ويعد قطاع النفط من أهم القطاعات الجاذبة للاستثمارات الاجنبية المباشرة ثم يأتي قطاع البناء والتعمير في المرتبة الثالثة من حيث اجتذابه للاستثمارات الأجنبية بقيمة اجمالية تصل الى 1129 مليون دولار، أي ما نسبته 3% من إجمالى الاستثمارات الأجنبية، فيما جاء قطاع الفنادق والسياحة في الترتيب الرابع،حيت يعتبر هذا القطاع من اهم القطاعات التى تساهم في زيادة وتنويع مصادر الدخل القومي، وتقليل الاعتماد على القطاع النفطي.
لاشك ان ليبيا تمتلك مقومات هائلة من الجذب السياحي مثل الموقع الاستراتيجي الهام،وطول الشريط الساحلي على البحر المتوسط الذي يصل الى 1850كم ، و المواقع الأثرية والحضارية التى تمثل الحضارات القديمة التى مرت بها ليبيا ،كما يوجد بها الكثير من الاماكن الترفيهية ومساحة كبيرة من الصحراء الجاذبة.والتنوع المناخي.
وقد وصلت قيمة الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع الى 975 مليون دولار اي مايوازي نسبة 3% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية وهي نسبة قليلة مقارنة باهمية هذا القطاع، أما حجم الاستثمارات الأجنبية في قطاع المواد الكيميائية فقد وصلت إلى 614 مليون دولار أي ما نسبته 2% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال الفترة المدكورة (2003_2015) .
والخلاصة ، أن حجم الاستثمارات الاجنبية في القطاعات الاقتصادية المختلفة في ليبيا لايزال دون المستوى المطلوب،وليس بالحجم الذي تسعى له ليبيا، وبما يتوازي مع قدراتها ، نتيجة سوء الادارة والبيروقراطية،وتهالك البنية التحتية،علاوة على حداثة تجربة الاستثمار الأجنبي مقارنة مع العديد من الدول الاخرى،هذا بالاضافة إلي أن السوق المالي الليبي يحتاج الى اعادة تفعيله قانونيا واداريا .
ويلاحظ ان نسبة الاستثمارات الاجنبية في ليبيا لاتزال ضعيفة ودون المستوى المأمول نتيجة ضعف السوق الاستهلاكي الليبي، وتعدد المحددات الاقتصادية الرئيسية لجذب الاستثمار، مثل حجم السوق ومعدل نمو الناتج والأصول التكنولوجية والهيكل المادي (موانئ ، طرق ، كهرباء ، اتصالات سلكية ولاسلكية ..الخ )، بالإضافة الى ضعف فرص الوصول إلى الأسواق الإقليمية والعالمية .
ويمكن الاشارة إلى ان نسبة مساهمة الاستثمار الأجنبي في الناتج المحلي الإجمالي ماتزال ضعيفة إذا ماقارناها بالامكانيات والقدرات المالية والطبيعية التي تمتلكها ليبيا.
العوائق التى تواجه الاستثمارات الأجنبية في ليبيا :
مايزال حجم الاستثمارات الأجنبية في ليبيا لايتناسب مع المقومات والطاقات الكامنة الغير مستغلة في الاقتصاد الليبي، إضافة إلى أن معظم الاستثمارات الأجنبية تتركز في قطاع النفط والغاز ،اما بالنسبة لقطاع الصناعات والتي يعول عليها في بناء قاعدة إنتاجية متنوعة تساهم في تنويع مصادر الدخل القومي فلايزال إسهام الاستثمارات الأجنبية فيها ضعيفة ، كما إن بعض القطاعات الاخرى مثل السياحة والنقل البحري وعلى الرغم من أنها قطاعات مهمة وواعدة فإن نصبيها هي الاخرى من الاستثمارات الأجنبية لايزال محدود .
وإجمالا يمكن تحديد الأسباب التي تكمن وراء تراجع الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الليبي في الاتي :
والخلاصة ،ان الاستثمار الاجنبي اصبح لاغنى عنه في تنمية اقتصادات الدول خاصة الدول النامية ،ومنها ليبيا التي يعاني اقتصادها من تشوهات كبيرة اثقلت كاهله، والحاجة ماسة
للاستثمارات الاجنبية التي تعمل على دفع وتحريك الاقتصاد وتخليصه من هذه التشوهات ، وتزويده بما يحتاجه من التكنولوجيا والخبرات التقنية والادارية اللازمة .
ومايحد من فرص تنامي الاستثمار الاجنبي في ليبيا الافتقار للاستراتيجية الفاعلة التي تمكن من جذب الاستثمارات الاجنبية ، والاستفادة منها ،وجعلها تشارك تنمية القطاعات الخدمية والإنتاجية والصناعية والمساهمة في زيادة الدخل القومي وتنمية الاقتصاد .
ان التحولات الاقتصادية الكبرى التي يشهدها العالم، والمنافسة الشديدة لجذب رؤوس الاموال ،وتنويع مصادر الدخل يفرض على ليبيا ان تهتم بالاستثمار الاجنبي ،وتعمل على جذبه وجعله رافدا اساسيا من روافد التنمية الاقتصادية.
بقلم: الدكتور ،مسعود المهدي السلامي: أستاذ الاقتصاد السياسي