إن الأخبار الجيدة لها تأثيرات غريبة. فبعد شهرين فقط من تطورات الأسعار المشجعة في الولايات المتحدة، كثر الحديث عن موت التضخم والدروس التي يتعين علينا أن نتعلمها.
تراهن الأسواق المالية على هبوط سلس يتمثل في انخفاض معدل التضخم دون حدوث ركود. ويتحدث الاقتصاديون عن “تراجع تام للتضخم”. ويذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك، متوقعين أن نجاح الولايات المتحدة في التغلب على التضخم سينطبق على جميع الدول. بل إن هناك من يغمغم بأن التضخم كان في نهاية المطاف عابرا، وأن الانحدار غير المؤلم ظاهريا في تضخم مؤشر الأسعار الاستهلاكية في الولايات المتحدة لا بد أن يفرض إعادة تفكير جوهرية في النظرية الاقتصادية. كان الوضع ساخنا في أجزاء كثيرة من العالم، لكن الناس أصبحوا متحمسين أكثر من اللازم قليلا.
هناك حاجة إلى بعض الحقائق لتأطير النقاش. فانخفاض التضخم في مؤشر الأسعار الاستهلاكية في الولايات المتحدة من الذروة التي تجاوزت 9 في المائة إلى 3.2 في المائة في يوليو من هذا العام لا يمكن أن يخفي التجاوز الضخم للأسعار مقارنة بالأهداف. وعلى مدار العامين الماضيين، ارتفع هذا المقياس الرئيس للتضخم في الولايات المتحدة 12 في المائة – وهو معدل سنوي أسرع بثلاث مرات تقريبا من نسبة الـ2 في المائة التي يرغب فيها بنك الاحتياطي الفيدرالي. وفي منطقة اليورو والمملكة المتحدة، كانت الزيادات خلال العامين الماضيين أعلى من ذلك، حيث بلغت 14.6 و17.6 في المائة على التوالي. على الأقل، لقد كان لدينا ما يقارب ستة أعوام من التضخم المتوقع في غضون عامين فقط. الأسعار ترتفع بشكل أبطأ، لكنها لا تتراجع.
توقع الجميع أن يكون كثير من الارتفاع في الأسعار بعد الاضطرابات التي أحدثتها الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية مؤقتا. فقد كان الخوف دائما هو أن التضخم لن ينخفض إلى مستوى 2 في المائة المستهدف من تلقاء نفسه، ويمكن أن يصبح مقاوما لتغيرات الظروف الاقتصادية في طريقه إلى الانخفاض. وهذا بالضبط ما يحدث وما زال مصدر الخوف. وحتى بعد أحدث البيانات الجيدة، فمن غير المرجح أن تتحسن توقعات التضخم الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي لنهاية هذا العام والعام المقبل والعام الذي يليه كثيرا. إذ كانت كل الأخطاء الرئيسة تتلخص في التقليل من قوة التضخم واستمراريته بدلا من المبالغة في تقديره.
رغم الانخفاض الحاد في المعدل الرئيس، يبدو أن الاقتصاد الأمريكي لا يزال في حالة نمو سريع، ولم يعد التوازن إلى سوق العمل بعد. وكما أشار أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة بحدة في اجتماعهم الأخير، فإن “الأجور الاسمية كانت لا تزال ترتفع بمعدلات أعلى من المستويات التي تم تقييمها على أنها متسقة مع الإنجاز المستدام لهدف التضخم الذي حددته اللجنة بـ2 في المائة”.
إذا كانت الولايات المتحدة قد شهدت بعض الاتجاهات المشجعة دون تحقيق قدر كاف من التقدم، فإن أوروبا لم تحذ حذوها بعد. فقد اضطر البنك المركزي الأوروبي إلى رفع توقعاته للتضخم في أحدث تنبؤاته، وأصبحت مقاييس التضخم الأساسي مقاومة للتغيرات في الظروف الاقتصادية. وفي حين أنه من الممكن للإحصائيين في المملكة المتحدة إنشاء مقاييس تظهر أن التضخم الأساسي بدأ الانخفاض، فإن معظم نقاط البيانات لا تزال تشير إلى ترسخ دوامة أسعار الأجور بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولا تشمل تعريفات استقرار الأسعار تضخم الخدمات الذي كان لا يزال يبلغ 7.4 في المائة في يوليو، مع نمو الأجور السنوية بما يزيد على 8 في المائة. وهذه ليست البيئة التي من المنطقي فيها أن تعلن البنوك المركزية الأوروبية انتصارها على التضخم.
بطبيعة الحال، أصبحت البنوك المركزية نشطة في مكافحة التضخم على مدى الأشهر الـ18 الماضية. حيث يعمل ارتفاع تكاليف الاقتراض بمقدار 5.25 نقطة مئوية في الولايات المتحدة، و5.15 نقطة مئوية في المملكة المتحدة، و4.25 نقطة مئوية في منطقة اليورو، على تهدئة أسواق العمل، مع انخفاض الوظائف الشاغرة وارتفاع معدلات البطالة في بعض الدول. لم نشعر بكثير من آثارها بعد.
إن الحقائق لا تشير إلى ضرورة إجراء مزيد من الزيادات في أسعار الفائدة للتغلب على التضخم. ولكن مع استمرار التضخم الأساسي مرتفعا للغاية على ضفتي الأطلسي، فليس هناك تقريبا أي حجة متماسكة تؤكد أن الأغلبية العظمى من هذا التشديد النقدي كان غير مدروس. فنحن لا نستطيع أن نعرف كيف كان أداء الاقتصادات الأطلسية الكبرى سيسير لو لم يفعل محافظو البنوك المركزية أي شيء، ولكن ليس هناك شك في أن الطلب الزائد سيكون أقوى، والتضخم أعلى، وستصبح مشكلة الارتفاع المستمر في الأسعار أسوأ.
ومن ثم فإن الخطوات التي اتخذوها لاحتواء التضخم كانت ضرورية بشكل شبه مؤكد، وليس هناك ما يدعو إلى الصراخ بأن المهمة قد أنجزت. لكن أحد جوانب مكافحة التضخم فاجأ الجميع تقريبا، وهو افتقاره إلى الألم. فقد وصلت معدلات البطالة في الولايات المتحدة إلى مستويات منخفضة شبه قياسية ولم ترتفع إلا بالكاد في أوروبا. لقد تحدت سوق الوظائف التوقعات بطريقة جيدة مع ارتفاع أسعار الفائدة.
ورغم أنه قد يكون من المغري أن نقول إن تباطؤ التضخم يمكن أن يكون غير مؤلم دائما، وإننا بحاجة إلى إعادة كتابة كتب الاقتصاد المدرسية، يبدو أن هذه حالة من الظروف الخاصة في مرحلة ما بعد الجائحة وليست حالة تتحدى النظرية.
أثناء الجائحة وبعدها، عانى العالم عديدا من الصدمات في جانب العرض وقد أسهمت هذه الصدمات في الارتفاع الأولي للأسعار. وقد حدثت هذه الصدمات على مستوى العالم في سلاسل التوريد العالقة والأقل كفاءة، وفي الزيادات الكارثية في أسعار الغاز بالجملة في أوروبا العام الماضي وفي انخفاض مشاركة القوى العاملة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
تم إصلاح عديد من هذه الصدمات أو تحسينها، الأمر الذي ساعد على خفض التضخم بألم أقل من المعتاد. وهذه ليست أخبارا سيئة بالنسبة إلى الاقتصاد، لأن نظريات السعر يتم تحديدها دائما عبر العرض والطلب. فقد تحسن العرض، وظل الطلب تحت السيطرة مع تشديد السياسة النقدية. من المبكر للغاية أن نفكر في مستقبل نظرية الاقتصاد الكلي. فالسؤال المطروح الآن بالنسبة إلى الولايات المتحدة وغيرها هو ما إذا كانت أسعار الفائدة مناسبة عموما أم أنه ينبغي رفعها قليلا.
انتهاء التضخم .. إعلان سابق لأوانه
- كتبه، نور الدين فردي
- بتاريخ، أغسطس 25, 2023
- 10:30 ص