مع ساعة متأخرة من ليل يوم (الاحد الاسود )استيقظ سكان مدينة درنة واخواتها ،سوسه ،شحات،البيضاء على هطول امطار غزيرة وغير مسبوقة سرعان ما تحولت مع شدة الرياح الى عاصفة مدمرة ، وصلت معها سرعة السيول الى 180كم في الساعة ، فيما بلغ مستوى ارتفاع المياه الى مستويات غير مسبوقه في تاريخ الفيضانات.
مما تسبب في غمر المساكن بالمياه التي تسللت الى الادوار العليا وحاصرت السكان ،ومع شدة غزارة هطول الامطار ،وقوة الفيضانات انهار سدي وادي درنة (سد ابومنصور ،سد درنه) وتحولا في لمح البصر الى رُكام ، وغطت السيول الجارفة المنازل والمباني.
،وجرفت التربه ،مما ادى الى اقتلاع ( احياء كاملة) بمن فيها من بشر وحجر ورميها في اعماق البحر، ،واختفت تماما من فوق الارض،في كارثة غير مسبوقة،جرت معها إرث عقود طويلة من الفساد والاهمال والتسيب ،وهي كارثة تعد الاكثر تدميرا، والاعنف من نوعها التي تشهدها ليبيا،ومنطقة البحر المتوسط ،وافريقيا .
.كما تسببت العاصفة (دانيال) في قطع الاتصالات والكهرباء عن المناطق المنكوبة ،وانهيار الطرق الساحلية التي تربط مدن الساحل الشرقي،وعزلت درنه تماما عن باقي المدن .ولم تسلم المدن الاخرى المجاورة لدرنة مثل مدينة سوسة (التي صنفت كتاني اكبر مدينة منكوبة ) وشحات والبيضاء من هول الخسائر البشرية
وفي الممتلكات العامة والخاصة ،وإن كانت الخسائر فيها اقل مقارنة بمدينة درنة .وحسب وكيل الامين العام للامم المتحدة( مارتن غرافت) ان حجم كارثة الفيضانات في ليبيا صادم ،ومفجع، ،وان احياء باكملها مسحت من الخريطة .
الاشد مافي كارثة الفيضانات العدد الكبير من القتلى والمفقودين ،ورغم ان الارقام متضاربة حول عددهم وتترفع في كل لحظة ،إلا ان التقديرات تشير الى ان العدد قد يصل في النهاية الى 20000قتيل ،من بينهم 400 مهاجر قتلو حسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية.
وحسب وزير الطيران المدني في الحكومة الموازية، عضو لجنة الطواري هشام ابو شكيوات ان الأمر كارثي للغاية ،الجثث ملقاة في كل مكان ،في البحر ،في الاودية ،تحت المباني .اما عدد المفقودين فقد يتجاوز في النهاية 15000، وعدد الذين اجبروا على النزوح فقد يصل عددهم الى 45000الف شخص.
وحسب المدير الاقليمي لمنظمة الصحة العالمية ان الفيضانات اترث على 1.8مليون شخص .
كما شملت الخسائر تضرر 1500 مبنى منها 891 مبنى في مدينة درنه دمر بشكل كامل،كما خرجت 117 مدرسة عن الخدمة، وانهيار 4جسور رئيسة تربط انحاء المدينة ،وجسر آخر في تجاه الساحل ،وباتت درنه بعد الفيضانات والسيول المدمرة التي احتاجتها مدينة متقطعة الاوصال ، هذا بالاضافة الى تضرر مئات المحلات التجارية ،وعشرات الاسواق المركزية ،وفقد مربي المواشي والاغنام في كامل منطقة الجبل الاخضر مايزيد عن 30 الف راس من الاغنام والمواشي الاخرى، وتعرض اكثر من 10 مناطق زراعية لخسائر جسيمة قد تؤثر في تغطية احتياجات السوق المحلية .
وربما الخطر الاشد وطأة هي الأمراض المنقولة عن طريق تحلل الجثث ،والامراض المنقولة عن طريق المياه الملوثة ،ومخلفات الحرب من المتفجرات التي طمرتها المياه مما يضاعف من حجم المخاطر .
أسباب الكارثة:
إن المتهم الاول في هذه الكارثة هو اعصار دانيال الذي لم تشهد البلاد مثله منذ اكثر من 100عام .وحسب تقرير لجامعة( ييل الامريكية) ان العاصفة دانيال هي الاكثر دموية في تاريخ افريقيا الحديث ،والاكثر فتكا على الصعيد العالمي .
وتكشف هذه الكارثة الوطنية عن حالة التردي والضياع التي آلت اليها الاوضاع في ليبيا نتيجة الصراعات والانقسام السياسي ،واسناد الامور الى من هم ليسوا اهل لتولي المسؤولية ،كما انها تفضح إخفاق الحكومات المتعاقبة الفاشلة في حماية مواطنيها ،وتعريضهم للخطر،.
وحتى عندما لاحت كارتة دانيال في الافق ،وتأكد انها ستجتاح المنطقة الشرقية من ليبيا ،اخفقت الحكومة الموازية المسيطرة على المنطقة في اتخاد التدابير الوقائية اللازمة لمواجهة الكارثة ،وحتى بعد اجتياح العاصفة درنة والمدن المجاورة لها لم تسارع هذه الحكومة لمواجهتها ،واتسم عملها بالعشوائية والتخبط ،مما زاد من حجم الخسائر البشرية والمادية .
وحسب وزير الاقتصاد الاسبق سليمان الغويل ان من بين اسباب الكارثة التسيب والاهمال، والفساد المالي والاداري ،وعدم وجود البنية التحتية، وعدم صيانة السدود منذ سنوات طويلة ،والسماح بالبناء بالقرب من مناطق الخطر ،والتخطيط العشوائي للمدن .
في العام 2021 ثم تخصيص مايعادل 335مليون دولار لإعادة اعمار مدينتي بنغازي ودرنه ومن بينها إصلاح السدود ،لكن هذه الاموال ثم اختلاسها .وقد افاد تقرير ديوان المحاسبة لسنة 2021 انه ثم تخصيص 2.268 مليون دولار لصيانة سد درنه و2.151مليون دولار لصيانة سد ابو منصور و2.317 مليون دولار لمشروع تجميع مياه وادي درنه .
ويؤكد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبه ان الوثائق كشفت وجود اموال خصصت لصيانة السدود في درنه ،لكن هذه الاموال لم تستخدم في هذا الغرض .
تكلفة إعادة إعمار المدن المنكوبة:
في الجانب المتعلق بإعادة الاعمار فالامر يحتاج الى جهود كبيرة ،وتكلفة مالية ضخمة لاعادة بناء مادمرته الفياضانات، مثل بناء مساكن لنحو 25الف اسرة باتت في العراء تتجاوز قيمتها مليار دولار ،وايضا تعويض المتضررين ،وإعادة بناء البنية التحتية الخدمية للمدينة، بما فيها السدود المدمرة التي تحتاج قيمة مالية قد تفوق 20مليون دولار ،هذا ناهيك عن إعادة ترميم المدارس والمراكز الصحية وغيرها من المرافق الاخرى .
وقياسا على حجم الدمار الذي طال درنه وسوسه والبيضاء وشحات ،فإن فاتورة إعادة الاعمار ستكون باهضة،وتحتاج الى تظافر كل الجهود،
وفي الجانب المتعلق بمواجهة هذه الازمة ارخت الانقسامات السياسية بظلالها على سرعة الاستجابة لتداعيات الازمة ،مما احدث تباطؤ في عملية الانقاد ،وبادرت بعضها حكومة الوحدة الوطنية بتخصيص حوالى 500مليون دولار ،لتخفيف من حجم الكارثة ،فيما خصصت الحكومة الموازية 10مليار دينار لنفس الغرض
كما يتم الان توفير كل ماتحتاجه المرافق الصحية من احتياجات لمواجهة الكارثة ..وحسب بعض التقديرات فإن اعادة إعمار المدن المنكوبة تحتاج الى مايقرب من 20مليار دولار،تصرف على فترة زمنية تصل الى 3سنوات .ومن جهته يرى الخبير الاقتصادي علي الصلح ان التقديرات الاولية تشير الى حاجة درنه وحدها الى 50000دولار يوميا لسد الاحتياجات اليومية ،بعد أنهيار المقدرات الاقتصادية للمدينة كليا .
والخلاصة ،ان الفيضانات التي شهدتها درنه واخواتها هي كارثة بكل ماتعني الكلمة من معنى ،ومن المهم مواجهة تداعيات هذه الكارثة ،والتقليل من اثارها، خاصة فيما يتعلق بالاثار الصحية المتمتلة في انتشار الاوبئة والامراض ،وايضا مخاطر المتفجرات التي جرفتها السيول وطمرتها في الارض عن طريق الاستعانة بالفرق الدولية المتخصصة .
والاهم من كل ذلك يجب ان تتم إعادة إعمار المدن المنكوبة بالاستعانة بالشركات العالمية ،وتحت اشراف دولي،وبما يضمن ان تتم عملية الاعمار بالشفافية والنزاهة المطلوبة.
،ومن خلال تكاثف كل الجهات ،وتوفير كل الامكانيات ،وتظافر جهود المجتمع الدولي لمساعدة ليبيا بعقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار ليبيا .وفي الجانب الاخر يجب ان يتم إنشاء هئية خاصة بالازمات والكوارث يقودها المتخصصين والخبراء تكون مهمتها الرصد والتحري والتنبوء بحدوث الازمات والكوارث، ووضع الخطط اللازمة لمواجهتها ،خاصة في ظل التغيرات البيئية والمناخية التي اصبحت تشكل خطرا يهدد العالم كله .
بقلم الدكتور مسعود المهدي السلامي: أستاذ الاقتصاد السياسي