Skip to content

إعادة إعمار المدن المنكوبة: مهمة صعبة وتكلفة ضخمة

بعد ايام معدودة بدأ يظهر حجم كارثة الفيضانات التي ضربت درنه واخواتها (سوسه ،البيضاء ،شحات ،في واحدة من اسوأ كوارث العصر ،مخلّفا خسائر بشرية ومادية جسيمة ،لم تشهدها ليبيا في تاريخها الحديث.

وفاقت الخسائر حد التصور ،وسماها البعض بالمأساة الكبرى،فيما عبر عنها رئيس الفرقة المختصة للحماية المدنية التونسية الذي شاركت فرقته في انتشال وانقاد الضحايا ، بالقول “إن مايتم تداوله في الاعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي لايمثل سوى 10% مما عاينه وشاهده أعضاء الفريق عن قرب من هول الكارثة”.

وبدأ يظهر ماخلفته كارتة الفيضانات من الخسائر البشرية والمادية حيث قتل الالاف الضحايا ،وفقد الالاف مثلهم ،وثم نزوح وتشريد مايقرب من 54000شخص،كما لم ترحم الفيضانات البنية التحتية حيث تسببت في انهيار آلاف المباني من الممتلكات الخاصة والعام ،وانهيار السدود،وتدمير عددا من الجسور ،ولم يسلم قطاع الثروة الحيوانية هو ايضا ،حيث ادت الفيضانات الى خسارة 40% من الثروة البحرية بمنطقة الجبل الاخضر،هذا علاوة على قطاعات الزراعة والصحة والتعليم، التي نالت هي الاخرى نصيبها من التدمير .

وسط هذه المآساة الوطنية يبرز التحدي الاكبر الذي تواجهه ليبيا في الايام القادمة وهو إعادة إعمار المدن المنكوبة ،خاصة في ظل الصراع والانقسام بين الاطراف السياسية ،حيث يحاول كل طرف منها إظهار احقيته في الاشراف على وصرف الاموال التي ستخصص لإعادة الاعمار.

وقد قام مجلس النواب في جلسة له بعد 5ايام من وقوع الكارثة بالإعلان عن تخصيص 10مليار دينار لهذا الغرض، ،دون ان يستند تخصيص هذا المبلغ على دراسات حقيقية وواقعية، ،واعلن المجلس انه لديه الحق في الاشراف على صرف هذه المخصصات التي قام بإسناد صرفها للحكومة الموازية غير المعترف بها دوليا.

من جهتها، خصصت حكومة الوحدة الوطنية مبلغ 2مليون دينار كدفعة اولى للاحتياجات الطارئة للمدن التي طالها التدمير .وقد طالبت حكومة الوحدة الوطنية خبرة ومساعدة البنك الدولي ،والبنك الافريقي للتنمية، والبنك الاوروبي لإعادة الاعمار والتنمية ،والبنك الاسلامي المساهمة في تقديم الدعم الفني لتقييم الاضرار ، وإنشاء برامج للتحويلات النقدية السريعه والطارئة للمتضررين ،وإدارة اموال إعادة الاعمار المرتقبة.

أما الحكومة الموازية في المنطقة الشرقية فقد دعت الى عقد مؤتمر دولي لإعادة الاعمار في 10 اكتوبر القادم ،تحت اشرافها . و رفض المجلس الاعلى للدولة من جهته قرار مجلس النواب تخصيص مبلغ 10مليار دينار لإعادة الاعمار واعتبره تصرف احادي يساهم في نهب وإهدار المال العام ،ودعا الى تشكيل لجنة لإدارة الازمة من داخل مدينة درنة من اهل الدراية والاختصاص في السلطة التنفيدية واهالي درنة وبما يكفل الملكية الوطنية لقيادة عملية إعادة الاعمار .

ودخل رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي على خط الاختلاف والصراع على ملف إعادة الإعمار حيث وجه رسالة الى المجتمع الدولي خلال الجلسة 78للهيئة العامة للامم المتحدة التي عقدت خلال الايام القليلة الماضية اوضح فيها حجم الكارثة ،وانها تحتاج الى تدخل المجتمع الدولي للمساعدة في إعادة إعمار المدن المنكوبة .

مخاوف مشروعة

وسط هذا الخلاف والصراع بين الاطراف السياسية التي يريد كل طرف منها الاستحواد على امول إعادة الاعمار، وفي الوقت الذي تنشغل فيه فرق الانقاد والاغاثة الدولية والمحلية،وتصل الليل بالنهار في انتشال الآلاف الضحايا، وفي البحث عن الالاف غيرهم من المفقودين الذين لايزال اغلبهم تحت الانقاض وفي اعماق البحر ،،دخل الفرقاء السياسيون في مرحلة جديدة من الصراع على كعكة إعادة الإعمار،ونهب مايمكن من هذه الاموال.وقد دفع هذا الصراع طيف كبير من الليبيين

للاعلان عن تخوفهم الشديد من ان يتم نهب الاموال المرصودة ،والتي سيقدمها المجتمع الدولي من قبل تجار الازمات من المتصارعين على السلطة، ورفضهم ان تتولى اي جهة من هذه الجهات منفردة مشروع إعادة الاعمار،ونادوا بضرورة ان يتولى المجتمع الدولى الاشراف كاملا على هذا الملف ..وهذا التخوف هو مادفع ايضا ابناء مدينة درنة الى الخروج في مظاهرات للمطالبة بسرعة إعادة إعمار درنه والمدن المتضررة الاخرى ، ورفضوا ان تقوم الشركات المحلية بالدخول في مشروع إعادة الاعمار ،وطالبوا بان يتم تكليف الشركات الاجنبية بهذه المهمة وذلك تحت إشراف ورقابة المجتمع الدولي،لضمان ذهاب المخصصات الضخمة الى هدفها الذي رصدت له .

إعادة الإعمار :تكلفة مالية باهضة

لاتوجد تقديرات مالية لتكلفة إعادة إعمار المدن المنكوبة ،ولكن من المتوقع حسب خبراء الاقتصاد ان تكون ضخمة ، وحسب بعض التقديرات ستتراوح مابين 7 الى 10مليار دولار(48)مليار دينار تقريبا ، من بينها 67 مليون دولار (300) مليون دينار لإعادة بناء الطرق والجسور التي تهدمت ، و(20) مليون دولار تقريبا لإعادة بناء السدود المنهارة وهو مايحتاج الى تظافر جهود الدولة والقطاع الخاص .

وإلى مساهمة دولية بعقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار المدن المتضررة من الفيضانات،ومساعدة دولية في الجوانب المتعلقة بالدراسات الفنية والاستشارات ،وإنشاء برنامج سريع للتحويلات المالية.

وحسب استاذ الاقتصاد بالجامعات الليبية عادل المقرحي انه بعد قراءة البيانات حول المناطق المتضررة ،فإن هناك حاجة إلى بناء احياء جديدة، خصوصا وسط مدينة درنه،إن لم يكن يحتاج الامر الى بناء مدينة جديدة بالكامل .

ويؤكد الخبير المالي سليمان الشحومي ان إعادة اعمار مدينة درنه والمناطق المتضررة الاخرى يحتاج إلى مشروع قومي كبير ،يفوق القيمة التي رصدها مجلس النواب (10)مليار دينار،والقيمة التي رصدتها حكومة الوحدة الوطنية (2)مليون دينار ،وتوقع ان يحتاج إعادة الإعمار من 3الى 5 سنوات،كمشروع وطني شامل .

وفي هذا الشأن تعمل كل من حكومة الوحدة الوطنية،التي من المتوقع ان يدعمها المجتمع الدولي في ملف إعادة إعمار المدن المتضررة ،والحكومة الموازية التي لايعترف المجتمع الدولي بها ،وهي تعمل كحكومة امر واقع ،تعمل كل منهما بطريقة منفردة وعشوائية ،دون الاعتماد على استراتيجية او رؤية اقتصادية وتقييم دقيق للخسائر المالية ،وحصر لحجم الاضرار ، ،مما قد يؤدي الى فشل مشروع الإعمار ،و إلى تردد الدول المانحة في تقديم الاموال خوفا من عدم وصولها إلى الجهات المستحقة لها، خاصة وان المانحين الدوليين اعربوا عن استعدادهم لتوفير التمويلات اللازمة ،شريطة ان يتم ذلك برعاية مشتركة مع اطراف الامم المتحدة ،وممتلين عن الدول المشاركة في خطط البناء والصيانة ،وجبر الاضرار.

عليه ،فإن اعادة إعمار المدن المنكوبة يحتاج الى انشاء مجلس ليبي مستقل للإعمار يقوم بالاشراف عليه عليه مجموعة من الخبراء الليبيين المتخصصين والمشهود لهم بالحيادية والنزاهة ،وبعيدا عن الاجسام المتخاصمة ،وسماسرة الازمات ،وبمشاركة وإشراف البنك الدولي للاستفادة من خبرته الكبيرة في مشاريع الإعمار والتطوير ،وايضا بمشاركة الدول المانحة ،والمؤسسات الدولية الاخرى صاحبة الاختصاص.

و لاتعد الاستفادة من المؤسسات والخبرات الدولية تدخلا في الشان السياسي الليبي او السيادة الليبية ،بل هي ضرورة وواجبنا نحتاجها في إعادة إعمار مادمرته الفيضانات ،وإعادة بناء مدينة درنه واخواتها ، وفق احدث الخطط والمعايير الدولية المطلوبة .

بقلم: الدكتور مسعود المهدي السلامي  أستاذ الاقتصاد السياسي 

أشهر في موقعنا