يمثل ملف إعادة أعمار ليبيا أولوية قصوى، وهدفا رئيسيا للجهات الرسمية في ليبيا، ولقطاع واسع من الليبيين، وأيضا لعدد كبير من الدول التي تسعى للحصول على حصتها من مشاريع إعادة الإعمار الضخمة التي تصل قيمتها الاجمالية الى مئات المليارات من العملة الصعبة.
ورغم الصراعات السياسية والظروف الامنية غير المواتية ،وحالة الفساد المالي والاداري الذي تعاني منه مختلف مؤسسات الدولة ،إلا ان هذا الملف يحظى بالأولوية في خطط مشاريع التنمية في ليبيا، نظرا لحجم التدمير الذي طال مختلف مرافق الدولة، وممتلكات عدد كبير من الليبيين خاصة في المناطق التي شهدت الصراعات المسلحة .ورغم ان الانقسام السياسي، والانفلات يقلل من زخم المسارعة في برنامج البناء والاعمار في الوقت الراهن، وتردد الشركات الاجنبية في القدوم ،إلا انه يبقى احد اهم الملفات التي تحوز على اهتمام الداخل والخارج ، وتشعل المنافسة بين عدد من الدول ،حيث من المتوقع ان يكون ملف إعادة اعمار ليبيا واحدا من اكبر الحملات المهمة والمتنافس عليها في شمال افريقيا والشرق الاوسط .
واقع إعادة الاعمار في ليبيا
رغم حالة الانقسام السياسي في البلاد إلا ان حكومة الوحدة الوطنية شرعت في وضع الخطط والتصورات المناسبة للبدء في إعادة الاعمار من خلال مشروع كبير أطلقت عليه (عودة الحياة).
وتحتاج ليبيا لإنفاق مئات المليارات لإصلاح الضرر الذي اصاب قطاعات عدة بسبب الارهاب وحالة الصراع المسلح واعادة تاهيل المرافق المتضررة.
ووفق تقديرات اصدرها البنك الدولي العام 2016 ان ليبيا تحتاج إلى 200 مليار دولار لتنفيذ برنامج إعادة الاعمار، على ان تصرف هذه المبالغ على مدى 10سنوات.
اما المنتدى الاقتصادي الدولي الذي عقد في روما في اغسطس من العام 2021 فقد قدر ان ليبيا تحتاج الى إنفاق حوالي 500 مليار دولار على عدة سنوات لتنفيذ المشروعات المتعلقة بالبنية التحتية والطاقة والمياه والصحة وغيرها.
اما وزير الاقتصاد في حكومة الوحدة الوطنية محمد الحويج فيقدر ان التكلفة الاجمالية المتوقعة لإعادة الاعمار تصل الى 200 مليار دولار.
وحسب (جهاز مشروعات الاسكان والمرافق) إن ليبيا تحتاج الى بناء 550 الف وحدة سكنية لسد العجز في قطاع الاسكان، كما تحتاج الى تكملة تنفيذ 250 الف وحدة سكنية اخرى توقف العمل فيها بسبب الاحداث ومغادرة الشركات الاجنبية ليبيا .
ويرى الدكتور علي عطيه استاذ الاقتصاد بجامعة بنغازي ان الاولوية في خطة الاعمار يجب ان تكون لبناء المدن والمؤسسات المتضررة من الحرب ,وتوفير مساكن للنازحين الذين فقدوا منازلهم ،وإعادة تفعيل المصانع الكبيرة، والمستشفيات، والجامعات ،وتأهيل البنية الاساسية المتهالكة التي تعرض اغلبها للتخريب والتدمير .
وفتحت ليبيا منذ استلام حكومة الوحدة الوطنية مهامها، فرصا استثمارية جديدة امام دول العالم، وتعمل الحكومة على وضع الخطط والبرامج الكفيلة بإعادة الاعمار، وقامت بإنشاء صندوق خاص لإعادة الاعمار خصصت له مبدئيا ما بين 30 الى 50 مليار دولار، وبالفعل ثم البدء في اعادة اعمار من المرافق التي تحظى بالأولوية اهمها الشروع في إعادة تأهيل مطار طرابلس الدولي من قبل ائتلاف شركة (اينياس)الايطالية والذي بمجرد اكتماله وكما هو متوقع مع نهاية هذه السنة 2023 سيكون قادرا على خدمة اكثر من 6.5 مليون مسافر سنويا، وسيمثل جسرا لليبيا بين الشرق والغرب، ومن البحر المتوسط الى افريقيا، هذا بالإضافة الى إعادة تأهيل وصيانة عدد من المطارات الداخلية والدولية الاخرى .كما شرعت الحكومة في تنفيد مشروع الطريق (الدائري الثالث) الذي يمثل احد المشاريع الضخمة في إعادة الاعمار ، وفي نفس الوقت يتم التفاوض مع الحكومة الايطالية من اجل عودة شركاتها لاستكمال تنفيد مشروع الطريق الساحلي الممتد من رأس جدير غربا الى امساعد على الحدود المصرية شرقا ،والتي كانت لبيبا قد اتفقت خلال فترة النظام السياسي السابق مع ايطاليا على تنفيذه كتعويض عن فترة الاستعمار الايطالي لليبيا.
وفي شرق ليبيا بدأت عملية واسعة لإعادة الاعمار بعد ما يقارب من عشر سنوات من مجابهة الارهاب، وانطلق مخطط اعادة الاعمار منه إزالة الركام والمسح والصيانة، وتعويض المتضررين، وبتكلفة اجمالية تصل حسب حاتم العريبي (رئيس لجنة الاعمار في المنطقة الشرقية) الى 2 مليار دولار.
التنافس الدولي على إعادة اعمار ليبيا
يلاقي مشروع إعادة اعمار ليبيا تنافسا دوليا كبيرا التي تسعى لحصول شركاتها على حصة معتبرة من عقود إعادة الاعمار، وبدأت العديد من الشركات الاجنبية من دول مثل تركيا وإيطاليا والمانيا وفرنسا ومصر وتونس والجزائر تصطف للفوز بحصتها من العقود الضخمة لإعادة الاعمار، وهو ما يؤكد ان ليبيا تجتذب الاهتمام الدولي خاصة في الجانب الاقتصادي ، حتى في ظل الازمة السياسية والامنية الحالية ،بسبب ما تملكه من ثروات طبيعية هائلة، وموقع استراتيجي متفرد، وتوجهها لإعادة للتنمية وإعادة ما دمرته الحروب المتتالية من بنية تحتية ومرافق ومؤسسات ،وممتلكات عامة وخاصة اخرى .وقياسا على حجم التدمير الكبير الذي طال مؤسسات الدولة وممتلكاتها ،وطال ايضا ممتلكات عدد كبير من الليبيين، فإن فاتورة إعادة الاعمار ستكون ضخمة، وستجتذب الاهتمام والمنافسة بين عدد كبير من الشركات الدولية الذي تطمح بالفوز بعقود من إعادة الاعمار وبالفعل بدأت هذه الشركات بالتوافد على ليبيا، وتوقع العقود الخاصة بها، من بينها بعض الشركات من الدول العربية مثل مصر وتونس .
ووفق دراسة للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب اسيا التابعة للأمم المتحدة (الاسكوا) ان دول جوار ليبيا يمكن ان تستحوذ على نحو 160 مليار دولار من القيمة الكلية لإعادة الاعمار، بما يسهم في خفض حالة البطالة في تونس بنسبة 6%،ومصر بنسبة 9%والسودان بنسبة 14%.وقد سبقت مصر دول الجوار الاخرى بتوقيع عدد من العقود للعمل في شرق ليبيا ،في حين تعمل تونس للحصول على عقود لشركاتها خاصة في المنطقة الغربية ،وتحتاج تونس الى المشاركة في إعادة اعمار ليبيا لتجاوز الازمة الاقتصادية ،غير ان تونس تفتقر للاستراتيجية الفاعلة التي تساعدها على منافسة الدول الاخرى .وعليه ،فإن النصيب الاكبر من إعادة الاعمار ستستأثر به الشركات الاجنبية الكبرى لدول مثل : (تركيا ،ايطاليا ،المانيا، فرنسا ) لضخامة امكانياتها، ووزن دولها في الساحة الدولية .
ان جهود إعادة أعمار ليبيا وتغيير وجه الحياة فيها، ونقلها من حالة الدمار والفوضى الى حالة البناء والنظام يعتبر بمثابة مشروع (القرن) الذي تعمل ليبيا على تحقيقه على ارض الواقع.
ومن نافلة القول، ان نجاح ليبيا في تنفيد مشروع إعادة الاعمار يتوقف على الاستراتيجية الواضحة، والنموذج الاقتصادي المستقر، والرؤية الاقتصادية الواضحة، والقدرة على معالجة هشاشة البنية التحتية، وسوء الادارة، والتخلص من الفساد المالي والاداري، وإصلاح الخلل في عمل المؤسسات المكلفة بإعادة الاعمار.
كما ان استقرار الاوضاع الامنية وفرض هيبة الدولة، ومعالجة الخلل في هياكل الدولة يعد شرطا اساسيا، واولوية حتى يمكن الشروع في إعادة الاعمار لأنه يأتي في مقدمة اهتمامات الشركات الاجنبية سواء تلك التي تتطلع إلى العودة لاستكمال المشاريع المتعاقدة عليها، او التي تحاول الحصول على حصة من مشاريع إعادة الاعمار الجديدة .
الدكتور مسعود المهدي السلامي: أستاذ الاقتصاد السياسي