ماذا لو حدثت أزمة غذائية في الصين؟ سؤال بسيط لكن مجرد التفكير فيه لن يصيب الصين فقط بالذعر، وإنما سيصيب سكان المعمورة أجمعين.
عليك أن تتخيل كم الضغط الذي يمكن أن يتعرض له سوق الغذاء العالمية إذا ما حدثت أزمة غذائية لدى مليار وأربعمائة مليون نسمة.
وكم حجم المنافسة والتقاتل على المنتجات الزراعية والمواد الغذائية من قبل البلدان المستوردة للغذاء، ومعدل الزيادة في الأسعار والضغوط المالية التي ستواجهها البلدان الفقيرة ذات الدخل المنخفض. مجرد التفكير في السؤال يجعلنا ندرك أن حدوث أزمة غذائية في الصين، قضية لا تعني الصينيين فحسب، بل تعنينا جميعا.
ولكن ما مدى واقعية السؤال؟ هل يمكن أن تواجه الصين أزمة غذائية بالفعل؟ هل يمكن لثاني أقوى اقتصاد في العالم أن يعجز عن توفير احتياجات شعبه من الطعام واستثماراته تنتشر على طول الكرة الأرضية وعرضها، وشراكته تنافس عمالقة التكنولوجيا العالميين.
قضية توفير الغذاء قضية أمن قومي لأي شعب من الشعوب، لكن في الحالة الصينية فالقضية لا تقف عند حدود الأمن القومي، ولا ترتبط فقط بواجبات حكومية تتعلق بضرورة تذليل جميع العقبات التي تحول دون توفير الطعام لثاني أكبر شعوب الكرة الأرضية، بعد أن تراجع موقع الصين أخيرا كأكثر بلدان الكرة الأرضية سكانا لمصلحة الهند التي باتت تحتل المرتبة الأولى حاليا.
ولكن قضية الغذاء لها وضعية خاصة في الصين، ولا تزال تحتل حيزا كبيرا في ذهن وتفكير الصينيين شعبا وقيادة، فجزء كبير من أبناء الصين وقادتها الحاليين يتذكرون حالات عدم الاستقرار السياسي المرتبطة بمجاعات الخمسينيات والستينيات المحفورة بقوة في أذهانهم، فالمجاعة التي ضربت الصين 1959-1961 كانت الأكبر في تاريخ البشرية وراح ضحيتها 30 مليون نسمة.
على الرغم من عدد سكان الصين الهائل ومساحتها الضخمة، إلا أن موارد الزراعة محدودة نسبيا، ما يجعل تأمين الغذاء قضية مركزية في الحياة الصينية ومصدر قلق دائم، فلدى الصين أقل من 10 في المائة فقط من الأراضي الصالحة للزراعة على مستوى العالم، والصين تنتج ربع الناتج العالمي من الحبوب، وعليها أن تغذي خمس سكان الكوكب.
وأظهرت بيانات المكتب الوطني للإحصاء أنه في عام 2022، وصل إنتاج الحبوب في الصين إلى مستوى قياسي زاد عن 686 مليون طن قليلا، على الرغم من الطقس القاسي واضطرابات كوفيد، وحاليا تحتل الصين المرتبة الأولى في إنتاج الحبوب مثل الأرز والذرة والقمح وأيضا المرتبة الأولى في إنتاج الفواكه والخضراوات واللحوم والدواجن والبيض ومنتجات الأسماك.
ولكن إذا كان هذا هو الوضع، فلماذا يتخوف البعض من أزمة غذاء صينية؟
يرى البروفيسور دي. سي. فيليب أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة لندن سابقا والاستشاري في عدد من المؤسسات الدولية المعنية بالزراعة حاليا مبررا لتلك المخاوف.
ويقول لـ”الاقتصادية”، إنه “على الرغم من احتلالها المرتبة الأولى في إنتاج عديد من المواد الزراعية والغذائية، إلا أنها مستورد صاف للمنتجات الزراعية منذ عام 2004، واليوم تستورد مزيدا من المنتجات مثل فول الصويا والذرة والقمح والأرز ومنتجات الألبان بكميات متزايدة”.
ويضيف “اعتمدت الصين نهجا مزدوجا لتأمين احتياجاتها من الغذاء.
المسار الأول: يعتمد على تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية الرئيسة وكذلك مصادر البروتين الضرورية، مع الاعتماد على السوق الدولية للحصول على إمدادات من المواد الغذائية غير الرئيسة خاصة فول الصويا.
المسار الثاني: قامت بكين بتوسيع عملياتها الزراعية في الخارج وأصبحت لاعبا رئيسا في الاستثمار الزراعي والبنية التحتية ذات الصلة بما في ذلك الأراضي الزراعية، ففي عام 2021 مثلا امتلك المستثمرون الصينيون أكثر من 383.9 ألف فدان من الأراضي الزراعية في الولايات المتحدة أي نحو 1 في المائة من ممتلكات الأجانب من الأراضي الزراعية”.
تدرك بكين أن حماية الإمدادات الغذائية وسط حالات عدم اليقين الجيو- سياسية الراهنة يعد أمرا ضروريا، ما يدفعها إلى تنويع وارداتها الغذائية من إفريقيا وأمريكا اللاتينية عبر اتفاقيات التجارة الحرة.
وفي عام 2021 كانت الصين ثاني أكبر وجهة للصادرات الزراعية الإفريقية بعد الاتحاد الأوروبي، وارتفعت الواردات الصينية من إفريقيا بنسبة 18 في المائة في عام 2021، وقد اقترحت الصين إنشاء ممرات خضراء بين الصين وإفريقيا لتسريع عمليات التفتيش والحجر الصحي والتخلي عن بعض التعريفات الجمركية بحيث يمكن أن تصل الواردات الزراعية الصينية من إفريقيا إلى 300 مليون دولار بحلول عام 2025.
أما بالنسبة لأمريكا اللاتينية فيقدر حجم الأراضي المملوكة أو المستأجرة من قبل الشركات الصينية بين 300 ألف ومليون هكتار، كما أن الصين وقعت أكثر من 100 اتفاقية تعاون زراعي مع دول مبادرة الحزام والطريق، في آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية.
مع هذا يشير البعض إلى أنه خلال العقدين الأولين من هذا القرن انخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي في الصين من 96 في المائة إلى 66 في المائة تقريبا، كما تغيرت أنماط النظام الغذائي لدى الشعب الصيني، ما أدى إلى زيادة الواردات من زيوت الطعام والسكر واللحوم، وقد وصلت نسبة اعتماد الصين على استيراد زيوت الطعام إلى ما يقرب من 70 في المائة.
وترى الدكتورة فيولن وليام أستاذة الاقتصاد الصيني في جامعة كامبريدج أن المخاوف الخاصة بأزمة غذائية في الصين أمر مبالغ فيه، حيث إن الصين لديها عديد من المقومات التي تمكنها من تفادي هذا المأزق، وحتى لو واجهت تحديا من هذا القبيل، فإن ما تتمتع به من احتياطات مالية يمكنها من مواجهة تلك المشكلات.
وتقول لـ”الاقتصادية”، إن “زيادة الطلب الصيني على المواد الغذائية يعود إلى عملية التحديث واسعة النطاق والمتواصلة منذ عقود، فالطبقة المتوسطة في الصين تزداد عددا ويرتفع مستوى معيشتها، ولهذا تطلب طعاما أكثر تنوعا وأعلى جودة، كما أن الصين رفعت من المعايير الوطنية لسلامة الغذاء، وهناك طلب متزايد على العلامات التجارية الغذائية الدولية، وبعض الواردات الغذائية أقل تكلفة مقارنة بالإنتاج المحلي، أبرزها فول الصويا”.
مع هذا تعتقد الدكتورة فيولن وليام أن التحدي الأكبر للصين في مجال الإنتاج الزراعي، الذي قد يدفعها لمزيد من الاستيراد يعود إلى تقلص مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، إذ فقدت الصين بين عامي 2013 و2019 أكثر من 5 في المائة من أراضيها بسبب الاستخدام المفرط للأسمدة أو إهمال الأراضي الزراعية، كما أن التغييرات المناخية وفقا لبعض التقديرات أدت إلى ترجع غلة المحصول بنسبة 10 في المائة.
على الرغم من أن الأمن الغذائي كان على رأس جدول أعمال الحكومة الصينية، إلا أن الحاجة الملحة للغذاء ازدادت هذا العام بسبب ارتفاع الأسعار الدولية للغذاء والأسمدة مع تواصل الحرب الروسية الأوكرانية، وقد قدمت الحكومة دعما بنحو ستة مليارات دولار لمزارعي الحبوب لتحفيزهم على زيادة الإنتاج، كما أفرجت عن ما يقرب من عشرة ملايين طن من احتياطات الأسمدة لديها لضمان استقرار أسعار السوق والإنتاج، كما كثفت من جهود إصلاح مزيد من الأراضي الزراعية من جانب، والعمل على تحويل مزيد من الأراضي الصالحة للزراعة إلى أراضي زراعية ذات إنتاجية أعلى من جانب آخر.
بدوره، يقول الباحث الزراعي إيثن هاري إن الصين تعمل على أكثر من مسار لضمان تأمين احتياجاتها الوطنية من الغذاء، وعلى الرغم من أهمية جانب العرض في تلك المسألة إلا أنها لا تهمل أيضا جانب الطلب.
ويؤكد لـ”الاقتصادية”، أن الحكومة تعمل على تقليل هدر الطعام من خلال مبادرات متعددة، وتشير بعض التقديرات إلى أن المستهلكين الصينيين في المدن الكبرى أهدروا ما يصل إلى 18 مليون طن من الطعام عام 2015، أي ما يكفي لإطعام 50 مليون شخص سنويا، إضافة إلى ذلك استخدمت الحكومة تشريعات لمكافحة إهدار الطعام وتحسين سلامة جودة الغذاء.
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن الصين لا تنظر إلى أزمة الغذاء من مفهوم نقص أو عدم توافر المواد الغذائية، بقدر ما يقلقها أكثر أن تكون الأزمة الغذائية نتيجة الصراعات الجيو – سياسية، والاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية أو الاختناقات في المضائق البحرية الدولية.
وربما يفسر ذلك القلق إلى حد كبير استحواذ الشركات الغذائية الصينية على عديد من شركات الحبوب متعددة الجنسيات، والسعي لامتلاك عدد من الموانئ والمحطات ومنشآت التخزين في مناطق إنتاج الحبوب الرئيسة في جميع أنحاء العالم لزيادة احتياطاتها الغذائية، وتفادي أي ارتباكات يمكن أن تنشأ من نقص أي مواد غذائية رئيسة في الأسواق المحلية لأمة يتجاوز عدد سكانها مليارا و400 مليون نسمة.
الأمن الغذائي في الصين: سلاسل الإمداد والمضائق البحرية مصدر قلق
- كتبه، نور الدين فردي
- بتاريخ، أغسطس 13, 2023
- 11:01 ص