تعد ظاهرة الاقتصاد الخفي من الظواهر القديمة في كافة المجتمعات الانسانية ،ولكن لم يتم الاهتمام به وتدارس تداعياته إلا منذ سنوات قليلة مضت ،كونه يعد من جهة مصدرا لكسب العيش للكثيرين من ذوي الدخل المحدود ،ومن جهة اخرى يشكل تهديدا يؤدي الى تشويه الناتج القومي، وتشويه كل مايتعلق بجوانب النشاط الاقتصادي كمستويات التشغيل والبطالة ،وانماط توزيع الدخل .
.ولايخلو اي اقتصاد أكان اقتصادا متقدما او ناميا من وجود ظاهرة الاقتصاد الخفي ، ولكن تختلف حدة تاثيره من اقتصاد لاخر ، و وتبعا لحجم الاقتصاد وقوته ،والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة ،والظوابط التي تحكم النشاط الاقتصادي ،علاوة على المراحل التي يمر بها النمو الاقتصادي.
وهناك شبه اتفاق بين الاقتصاديين على ان انشطة الاقتصاد الخفي تتشابك مع انشطة الاقتصاد الرسمي في إطار المجتمع من خلال شبكة موسعة ومتنامية من علاقات الانتاج والتبادل والتوزيع ،وهي تشكل نسبة كبيرة من الناتج القومي الاجمالي في اغلب الدول .
كما يعد الاقتصاد الخفي مسببا اساسيا للتشوهات التي تصيب اي اقتصاد ،وتحد من فاعليته ،وتلكف ضياع اموال كبيرة على خوينة الدولة .
مفهوم الاقتصاد الخفي :
لايوجد اتفاق محدد بين الاقتصاديين حول مفهوم الاقتصاد الخفي ،ويختلف مفهومه من شخص لاخر ،ومن نظام اقتصادي الى نظام اقتصادي اخر ،ولهذا اطلقت عليه تسميات متعددة منها ،الاقتصاد الموازي ،الاقتصاد السري ،الاقتصاد الغير رسمي ،اقتصاد الظل، وغيرها من التسميات الاخرى . ويتمثل الاقتصاد الخفي في مجموعة من الانشطة غير المسجلة او المرخص بها،او تلك التي لاتدخل اصولها وقيمة ارباحها ضمن الحسابات القومية .
،ويرى بعض الاقتصاديين ان الاقتصاد الخفي يشمل كافة الدخول التي لايتم الكشف عنها للسلطات الضريبية ،والتي من المفترض ان تدخل ضمن حسابات الدخل القومي، وتخضع للضرائب ،حيث ان انشطة الاقتصاد الخفي تعمل كلها على التهرب من دفع الضرائب ،وتجنب القيود الروتينية المفروضة على ممارسة النشاط الاقتصادي .
وعليه ،يمكن تعريف الاقتصاد الخفي بأنه عبارة عن مجموعة من الانشطة التي تحقق دخلا لايتم تسجيله رسميا ضمن حسابات الناتج القومي ،إما لتعمد إخفاؤه للتهرب من الالتزامات القانونية المرتبطة بالكشف عن هذه الانشطة ،وإما بسبب ان هذه الانشطة المولدة للدخل تعد مخالفة للقوانين المعمول بها في الدولة ،مثل تهريب السلع ،والاتجار بالبشر ،والارهاب ،والسرقة الخ. لكن بالمقابل ليس كل المعاملات التي تتم في الاقتصاد الخفي تعتبر غير قانونية ،حيث توجد دخول محققة بطريقة مشروعة ولكن لايتم الافصاح عنها للسلطات الضريبية ،خاصة النشاطات الموسمية ،او التجارة عبر الحدود ،او بعض المشاريع الصغرى .
ظاهرة الاقتصاد الخفي في الاقتصاد الليبي:
يعد الاقتصاد الليبي اقتصادا ناميا وريعيا ،اي انه يعتمد على مصدر واحد في الدخل القومي وهو النفط . فقد اصبح قطاع النفط هو الركيزة الاساسية في تمويل مختلف برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ليبيا
ويعاني الاقتصاد الليبي مثله مثل اغلب الاقتصادات النامية من وجود ظاهرة الاقتصاد الخفي ،وهي تتمثل في مظاهر متعددة منها :
-انتشار الاسواق الشعبية والباعة المتجولين الذين لا تخضع دخولهم للضرائب .
-وجود عدد كبير من سيارات الاجرة والورش الحرفية والمحلات التجارية التي لاتخضع دخولهم إلى الضرائب في مختلف المدن الليبية.
-انتشار ظاهرة التجارة في النقد الأجنبي وخصوصا خلال الفترة ماقبل 1999 وبعد سنة 2011 ف حيث بلغت أسعار الصرف أضعاف مضاعفه عن السعر الرسمي.
-التجارة في السلع الممنوعة محليا ودوليا كالمخدرات والخمور ،والاتجار بالبشر .
تهريب السلع المدعومة خارج الحدود مثل الوقود بغية تحقيق مكاسب وراء فارق السعر في هذه السلع .
-لجوء بعض الأفراد المسافرين لاستيراد بضاعة لأغراض تجارية ولكنها تقيد تحت بند صحبة مسافر تهرباً من دفع الرسوم الجمركية عليها .
يمكن أن نلاحظ حجم الاقتصاد الخفي ونسبة مساهمته إلى الناتج المحلي الإجمالي للانشطة غير النفطية خلال الفترة من (1981_2011) (مركز بحوث العلوم الاقتصادية 2013)حيث نلاحظ انه خلال العقد الأول (1981_1989) أن حجم الاقتصاد الخفي ونسبة إلى الناتج المحلي الاجمالي بالاسعار الجارية للأنشطة الغير نفطية اخد قيم ونسب متقاربة طول هذه الفترة باستثناء عامي (1986_1989) حيث بلغ حجمه (576.5_415.0) مليون دينار علي التوالي وبلغت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي بالاسعار الجارية للأنشطة غير النفطية 13.4% و 8.1% على التوالي ، كما بلغ متوسط نسب حجم الاقتصاد الخفي إلى الناتج المحلى الإجمالي بالاسعار الجارية للأنشطة غير النفطية خلال عقد الثمانينيات مانسبته (8.3%) .
أما خلال عقد التسعينيات(1990_1999) نلاحظ ارتفاع حجم الاقتصاد الخفي في أغلب السنوات حيث بلغ 516.6 مليون دينار خلال عام 1990 وكانت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي للانشطة غير النفطية 10.3% ، ثم ارتفعت إلى 1592.5 مليون دينار خلال عام 1993 وكانت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي للأنشطة غير النفطية 23.6% ، ثم يرتفع ليصبح أعلى قيمة له خلال عقد التسعينيات حيث بلغ حجم الاقتصاد الخفي في عام 1998 ماقيمة1700.1 مليون دينار ، وكانت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي للأنشطة غير النفطية 17.3% وبلغ متوسط حجم الاقتصاد الخفي إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال عقد التسعينيات مانسبته 15.3% .ويعزى سبب ارتفاع معدل الاقتصاد الخفي خلال هذه السنوات الى فتح المجال للقطاع الخاص للقيام بالاستيراد بدون تحويل عملة عن طريق القطاع المصرفي ،وانما عن طريق السوق السوداء لصرف العملة .
أما خلال العقد الأول من الألفية الثانية (2000_2009) فنلاحظ الانخفاض الذى طرا على حجم الاقتصاد الخفي، حيث أصبح متناقص إلى أن وصل إلى قيم سالبة حيث بلغت نسبته إلى الناتج المحلى الاجمالى للأنشطة غير النقطية 13.1% أما بالنسبة للسنوات 2007_2008_2009_2010 ) أصبح يأخذ قيم سالبة كانت (178.6-) (1630.3-) (857.8-) (870.4-) على التوالى وبلغ في المتوسط ما نسبته 2.8% خلال هذه السنوات أما بالنسبه لعام2011 فقد بلغ حجم الاقتصاد الخفي نسبة مرتفعة وصلت الى ماقيمته 5131.7 مليون دينار وكانت نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي للأنشطة الغير النفطية 21% ،وهي تاني اعلى نسبة في معدل ارتفاع الاقتصاد الخفي بعد العام 1993.
أسباب تزايد حجم الاقتصاد الخفي:
تتمثل التركيبة العامة للاقتصاد الليبي في قطاع عام مهيمن ومنهك وغير فعال ، ويعاني من مشاكل في بيئته وتركيبته ،وغياب وعدم وضوح السياسات الاقتصادية الفاعلة ،والعمل في بيئة اقتصادية غير واضحة المعالم ،ووفق سلم اولويات غير مرتب ،وقطاع خاص متردد وغير ناضج،الامر الذي وفر البيئة المناسبة لنمو وتطور الاقتصاد الخفي .
وهناك مجموعة من العوامل الاخرى التي زادت من حجم الاقتصاد الخفي في الاقتصاد الليبي من اهمها :
_ الزيادة السكانية ومارافقها من الحاجة إلى التوظيف والعمل وبشكل لايتناسب مع ماهو متاح من فرص سوق العمل الرسمي ،مما دفع الى ممارسة الاعمال الهامشية والحرفية المتنوعة .
_عدم العدالة في توزيع الدخل ،وضعف القدرة الشرائية لشرائح عديدة من افراد المجتمع ،مما دفع شرائح عديدة للبحث عن مصادر دخل اضافية .
_دخول أعداد كبيرة من العمالة الوافدة الباحثة عن العمل في ليبيا مما أدى إلى زيادة الاستهلاك وما يترتب عليها من انخفاض في عرض السلع المقدمة من قبل القطاع العام ، مما أدى إلي زيادة دخول العمالة الوافدة الغير خاضعة دخولها للضرائب و زيادة تهريب السلع ” المدعومة ” خارج البلاد بغية تحقيق مكاسب سريعة .
_ انخفاض مستويات الإنتاج المحلي الناتج عن توقف بعض الصناعات والنقص في مستلزمات الأنتاج .
_ضعف النمو الاقتصادي في القطاعات غير النفطية وعدم قدرتها على خلق فرص عمل تتناسب مع معدلات النمو في قاعدة قوة العمل في الاقتصاد .
_ السماح بإستيراد السلع بدون تحويل عملة عن طريق المصارف، أي الاستيراد بالاعتماد على السوق الموازية (السوداء ) للصرف الأجنبي حيث بلغ سعر الصرف أضعاف مضاعفة للسعر الحقيقي للصرف الأجنبي مما زاد في حجم الاقتصاد الخفي .
_تغاضي الدولة عن تقنين بعض الانشطة التجارية وتنظيمها مثل الورش والحدادة واعمال الكهرباء والبناء.
وفي المجمل يمكن القول ان الاقتصاد الخفي مازال يتوسع في الاقتصاد الليبي ،وتتوسع معه المظاهر السلبية التي ترتد في النهاية على الفئات الاجتماعية الاقل قدرة على مواجهة اثاره السلبية ،لعدم وجود خطط استراتيجية لاعادة هيكلة الاقتصاد والتخلص من التشوهات التي لازمته طيلة عقود .
وحتى يمكن التقليل من الاثار السلبية التي يخلفها الاقتصاد على الاقتصاد والمجتمع يجب اتباع الخطوات التالية :
_اعادة هيكلة سوق العمل حتى يكون قادر على استيعاب العمالة الوطنية
_اتباع طريقة سلسلة ومرنة في عملية تحصيل الضرائب ،حتى يكون اصحاب الاعمال الصغرى قادرين على دفعها .
_لابد من اعادة تنظيم وجود العمالة الوافدة ،واخضاعها لدفع الضرائب والالتزام بقوانين العمل في ليبيا .
-العمل على تحسين الوضع المعيشي لبعض الفئات في المجتمع ،لدفعهم للتخلص من امتهان بعض انشطة الاقتصاد الخفي .
الدكتور مسعود المهدي السلامي : أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة