يعتبر الاقتصاد الليبي اقتصادا ريعيا بامتياز ، فهو احادي المورد ،وصغير نسبيا ،وعلى درجة عالية من الانكشاف بسبب التوسع في الانفاق الاستهلاكي على حساب التنمية المستدامة واعتماده بشكل شبه كلي على مورد النفط في تسيير النشاط الاقتصادي ،و كمصدر وحيد للدخل،والحصول على العملة الصعبة التي تستخدم في تمويل الواردات ،مما خلق تشوهات في بنية الاقتصاد الليبي و جعلته اقتصادا استهلاكيا غير منتج.
زيادة على ذلك، هو مرتبط باستيراد اغلب السلع الاساسية ،وعدم القدرة على تنويع مصادر الدخل ،مع إهمال دور القطاعات المنتجة الاخرى التي يمكن ان تساهم في ايجاد مصادر تساهم في تنمية الاقتصاد ،وتنويع نشاطاته.
واقع الاقتصاد الليبي
يعتمد الاقتصاد الليبي حسب اغلب التقديرات بنسبة تصل الى 98% على النفط كمصدر للدخل والانفاق العام للدولة ، مقابل مساهمة قليلة للقطاعات الاخرى في دعم الاقتصاد .
وحسب تقرير( British petroleum) الصادر في 2018 إن ليبيا تمتلك اكبر احتياطي من النفط في افريقيا يفوق 70 مليار برميل ،واحتياطيات مؤكدة من الغاز تتجاوز 80 تريليون قدم مكعب (تصريحات لرئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة ). هذا علاوة على هناك احتياطيات اخرى برية وبحرية لم يتم اكتشافها بعد ،جعلت
نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي المعتمد على النفط الرقم الاعلى في افريقيا . وقد قدر موقع (statista) نصيب الفرد الليبي بحوالى 7.196دولارا في العام 2022.
وحسب مؤتمر التنمية الاقتصادية في افريقيا (الاونكتاد) للعام 2022 ان ليبيا تأتي من بين تسع دول افريقية تعتمد بشكل شبه كلي على مورد النفط والغاز في الدخل القومي ،ولاتوجد لديها مصادر اخرى بديلة.
يوضح الرسم البياني التالي نسبة اعتماد بعض الدول الافريقية ومنها ليبيا على صادرات النفط.
وهذه الدول معرضة اكثر من غيرها للتاثر بالازمات الدولية ،وتقلبات اسعار الغداء عالميا .
وقد تسبب الاعتماد على النفط في ليبيا في تهميش قطاعات اخرى كانت قبل اكتشاف النفط من مصادر الدخل وتساهم في تنمية الاقتصاد .فعلى سبيل المتال لا يساهم قطاع الصناعة غير النفطية إلا بجزء بسيط في الناتج المحلي الاجمالي ،و منذ ان بدا تصدير النفط في العام 1961 اهملت الدولة تطوير القطاعات الانتاجية الاخرى ، ،و لم تخصص لها في الخطة الخمسية الاولى (1963_1968) إلا حوالي 2.4%من الميزانية ،ولم تزد مساهمة هذه القطاعات مجتمعة في الناتج القومي الاجمالي في الفترة (1962_1981) عن نسبة 5.2%. ولم تتحسن هذه النسبة بشكل كبير في السنوات اللاحقة .
ورغم ان الدولة بدأت في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي في الاهتمام بالقطاعات القوميةالاخرى من خلال اقامة المشروعات الصناعية والزراعية والخدمية الصغرى ،وخصصت لها ميزانيات كبيرة ،لكن هذه المشروعات فشل اغلبها ، ولم تحقق الهدف منها بسبب سوء ادارة القطاع العام ،وغياب التخطيط الناجح القائم على الجدوى الاقتصادية ،وعدم التوسع في مشاركة القطاع الخاص في إدارة وتمويل هذه المشاريع ، بالاضافة الى تفشي ظاهرة الفساد.
وبعد احداث 2011 ومارافقها من فوضى وانفلات امني وضعف قدرة الدولة المركزية على التحكم في الاوضاع، تعرضت الكثير من هذه المشاريع للنهب والتخريب والاهمال والسرقة ،مما ادى الى توقفها عن نشاطها .
رغم تخصيص الدولة ميزانية كبيرة منذ سبعينات القرن الماضي لتطوير القطاع الزراعي واقامة المشاريع الزراعية في اغلب مناطق البلاد، وانشاء مشروع النهر الصناعي (الذي كلف اكثر من 30مليار دولار ) للاستفادة منه في ري هذه المشاريع وتحقيق التنمية الزراعية ،الا ان هذا القطاع لم يحقق المخطط له في المساهمة في التنمية الاقتصادية ، وتحقيق الاكتفاء الذاتي،و لم يتمكن من سد حاجة ليبيا من الحبوب ،حيث ما يزال يتم استيراد مايعادل 70%من حاجة البلاد من الحبوب من الخارج .
ووفقا لبيانات مصرف ليبيا المركزي فان الناتج المحلي الاجمالي للقطاعات غير النفطية ضعيف ، ،فهو يساهم بما لايزيد عن 32% من الناتج المحلي الاجمالي ،ومالا يزيد عن 7%من الايراد العام في 2014.وارتفع الى 13% في العام 2017 من الايراد العام ,وبقى في حدود 32% من الناتج المحلي الاجمالي .والسبب في هذا التغير النسبي هو ارتفاع قيمة الواردات الخارجية من الر سوم والضرائب على الاعتمادات المستندية .(مصرف ليبيا المركزي2022)،وليس زيادة مساهمة القطاعات غير النفطية في زيادة الايراد العام .
ورغم التحسن في مساهمة القطاعات غير النفطية في بعض السنوات في زيادة الايراد العام ،إلا انها تظل نسبة ضعيفة خاصة لو اخدنا في الحسبان حجم هذه القطاعات ،والميزانيات الضخمة التي صرفت عليها .
والجدول التالي يوضح نسبة المساهمة الكلية للقطاعات في الايراد العام (مصرف ليبيا المركزي تقارير مختلفة ).
2011=الايرادات النفطية 94.15% =الايرادات غير النفطية 5.85%.
2012 =الايرادات النفطية 95.44%=الايرادات غير النفطية 3.65%.
2013=الايرادات النفطية94.54%=الايرادات غير النفطية 5.46%.
2014 =92.73%=الايرادات غير النفطية 7 27%.
لقد اثرت الازمة السياسية التي تشهدها ليبيا منذ العام 2011 في مستوى النمو الاقتصادي الذي عانى لسنوات طويلة من هيمنة القطاع العام عليه ،والتخطيط المركزي القائم على هيمنة الدولة ، بالاضافة الى اعدم الاستقرار ،وقد ادى الصراع السياسي الى شل الاقتصاد بشكل كبير ،وحد من فاعليته ،واثر بالتالي على مستوى النمو العام فقد ،بلغ متوسط النمو الاقتصادي خلال الفترة من 2011 الى 2019 نسبة 1.9% وانخفض بنسبة 60% في العام 2011 ،ثم انخفض مرة اخرى الى مستوى 6% تحت الصفر ،نتيجة ايقاف تصدير النفط بسبب القوة القاهرة عندما تمت السيطرة على الهلال النفطي من قبل امر حرس المنشآات النفطية وقتها (الجضران ) ، مما ادى الى تدني مستوى انتاج النفط الى مادون 250 الف برميل في اليوم، وخسارة ليبيا تلتي احتياطياتها من النقد الاجنبي بين عامي 2013 و 2016,وكلف الخزينة العامة خسارة مايصل الى 75 مليار دولار .
كما ادى الصراع الى انخفاض حاد في اجمالي الاستثمارات الليبية ،حيث انخفضت حصة الاستثمارات من الناتج المحلي الاجمالي الى النصف من 55.9%في العام 2016 الى 24.5% في العام 2020.
التحديات التي تواجه الاقتصاد الليبي
يواجه الاقتصاد الليبي منذ العام 2011 تقلبات غير مسبوقة , نتيجة الازمة السياسية التي تشهدها البلاد والتي اترت على مستوى انتاج النفط ،وادت الى توقف شبه كلي للانتاج نتيجة الصراع للسيطرة على الحقول النفطية ،بالاضافة الى تقلبات اسعار النفط العالمية ،وتراجعها في بعض السنوات بسبب انخفاض النمو العالمي دون المتوقع .كما لعب النفط دورا في تهميش القطاعات الاقتصادية الاخرى في ليبيا حيث تسبب العائد النقدي الضخم من تصدير النفط الى تكدس كبير في الوظيفة العامة ،حيث تشير بعض الاحصائيات الى ان عدد العاملين في القطاع العام وصل الى 2,200مليون ،وهو رقم ضخم اذا ماقارناه حتى بدول الجوار التي يبلغ عدد سكانها اضعاف عدد سكان ليبيا.
كما تسببت سياسة الاقتصاد الريعي في اهمل الاقتصاد الانتاجي وعدم الاهتمام بتطوير وتنويع الاقتصاد ،وايجاد مصادر دخل بديلة للنفط،خاصة اذا اخدنا في الحسبان ان تناقص انتاج النفط ،او نضوبه متوقع ، في ظل وجود دراسات تؤكد قرب نضوبه ،او الانتهاء الحاجة اليه،او ايجاد مصادر بديلة تعوضه ،فالنفط مرتبط بعمر زمني .
والمشكل ان الاقتصاد الريعي غالبا ماتتولد عنه ثقافة موازية ،هي ثقافة الاتكالية والاستحقاق دون عمل او إنتاج ،يجعل المواطن يطالب بدون جهد مستحق بحصته في الثروة النفطية .و تنامي ثقافة الاستهلاك، وزيادة استيراد السلع الاساسية والكمالية ،مما ادى الى استنزاف خزينة الدولة من العملة الصعبة .
ان اصلاح هيكل الاقتصاد الريعي المعتمد على النفط في ليبيا يجب ان يبدأ بتقوية المؤسسات ،ووضع استراتيجية اقتصادية مستقبلية اكثر شفافية، والاستخدام الامثل للايرادات النفطية .كما يجب تفعيل دور القطاع الخاص ،وعدم إقصاء دور الدولة في الاشراف والتوجيه .
ويجب العمل على تنويع الاقتصاد ،والاهتمام بالقطاعات الانتاجية الاخرى وتشجيع الاستثمار ،وايجاد التشريعات القانونية التي تسمح بقيام القطاع الخاص بدور فاعل في الاقتصاد ،لجعله اقتصاد متنوع ومنتج .
كما يجب ان تخضع مؤسسات الدولة للرقابة فيما يخص تنمية واستغلال الثروات الوطنية ،وبشكل دقيق وحازم .
الدكتور -مسعود المهدي السلامي
استاذ الاقتصاد السياسي