Skip to content

تأثير ظاهرة الفساد المالي والإداري على الاقتصاد الليبي  

يعد الفساد المالي والاداري ظاهرة مزمنة ومتفشية في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء ،فهو يؤثر في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويحدث تشوهات في بنية الاقتصاد ،ويعرقل خطط التنمية او يفشلها .

ولخطورة هذه الظاهرة وتاثيراتها السلبية اهتم الباحثون والأكاديميون والمشرعون محليا ودوليا بالتعريف بهذه الظاهرة، وكشف خطورتها على الاقتصاد والمجتمع على حد سواء . حتى توصلوا إلى أن الفساد المالي والاداري هو  أي فعل يرتكب بما يتعارض مع القوانين المرعية ،بهدف الحصول على منفعة أو خدمة غير مستحقة .

وتأتي ليبيا حسب (مؤشر المنظمة الدولية للفساد،) من بين أسوأ عشرة دول فسادا في العالم ،وحسب تقارير الجهات الرقابية في ليبيا فإن ظاهرة الفساد مستشرية في جميع مؤسسات الدولة تقريبا.

وأظهرت هذه التقارير مؤشرات خطيرة لتزايد ظاهرة الفساد وتأثيرها على جميع القطاعات والمؤسسات خاصة خلال الفترة الممتدة من 2011 حتى الان ، بسبب حالة الانقسام السياسي، والانفلات الامني،  وتدني فاعلية الاجهزة الرقابية .

واقع الفساد المالي والاداري في ليبيا

لم تكن ليبيا بمنأى عن الفساد ،فهو منتشر فيها كغيرها من الدول منذ القدم ولم تسلم انعكاساته السلبية على جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية جراء ممارساته في الماضي والحاضر . إلا انه خلال العقدين الاخيرين ( لاسيما الخمس سنوات الأخيرة ) أصبح الفساد تقريبا مستشرى في جميع مؤسسات الدولة وفي مختلف مستوياتها وبكل اشكاله وصوره.

وأصبح ثقافة متجدرة في المجتمع ، في غياب الرادع الحقيقي لهذه الظاهرة . وحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية للعام 2016 جاءت ليبيا في المرتبة 170 في سلم الفساد من بين 176 دولة الاكثر فسادا. وحسب كل المؤشرات فإن ليبيا حافظت على هذا الترتيب في الفساد في السنوات اللاحقة .

لقد أصبح الفساد من أهم معوقات التنمية ويكلف خزينة الدولة الاموال الطائلة . حسب مؤشرات النزاهة الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية جاءت ليبيا في مقدمة الدول الاكثر فسادا في العالم، بالرغم من انشاءها لعدة مؤسسات للرقابة على مؤسسات الدولة العامة مثل هيئة الرقابة الادراية ، وديوان المحاسبة ، هيئة مكافحة الفساد وهيئة الرقابة على الاغذية والادوية وغيرها .

وتعود اسباب ظاهرة الفساد المالي والاداري في ليبيا حسب (ديوان المحاسبة 2015) الى :

1_ عدم وجود تشريعات وقوانين رادعه ومشددة ضد مرتكبي جرائم الفساد المالي والاداري ،وعدم وجود الية واضحة لكيفية محاسبة جرائم الفساد .

2- غياب دور الأجهزة الرقابية.

لاتقوم الاجهزة الرقابية الداخلية في كل مؤسسات الدولة بدورها في الرقابة ،وعادة ماتكون هذه الاجهزة من ضمن دائرة ارتكاب جريمة الفساد ، علاوة على ضعف دور المراقبين الماليين ،والمراجعين الماليين بالمؤسسات العامة للدولة، وعدم تقيدهم باللوائح والقوانين الخاصة بالميزانية ،والتقصير في اعداد التقارير المالية الشهرية ، الأمر الذي ساهم في اهدار المال العام .

3_ الاهمال والتسيب الاداري في جميع مرافق الدولة.

وهو نتيجة ضعف الاحساس بالمسئولية في اداء الواجب،وغياب الواعز الديني والاخلاقي لدى مرتكبي جريمة الفساد ،وربما يأتي هذا الامر نتيجة سوء الاختيار في شغل الوظيفة ،وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب .

4_ ضعف المرتبات الشهرية للافراد خاصة العاملين منهم في الوظيفة العامة للدولة

مما ساهم في قبولهم الرشوة ،وممارسة المحسوبية والمحاباة والوساطة وغيرها من مظاهر الفساد المعروفة .

5_ غياب العدالة الاجتماعية، واتساع الفارق في توزيع الدخل بين الليبيين،وظهور طبقة طفيلية،انتهكت القانون،واستولت على المال العام بمختلف طرق الفساد .

6_ الهدر الكبير في المال العام الذي تمارسه مؤسسات الدولة المختلفة،ودون ضوابط او رادع قانوني او إداري

وذلك في غياب تطبيق القانون ، وبسبب عدم وجود رقابة ومحاسبة دقيقة لهذه المؤسسات حتى استشرى فيها الفساد المالي والاداري والواسطة والمحسوبية ،مما جعلها فاشلة وعاجزة عن اداء عملها في تقديم الخدمة لمستحقيها .

انعكاسات الفساد على الاقتصاد الليبي :

لقد تأثر الاقتصاد الليبي سلبيا بتغلغل الفساد المالي والاداري ،واصبح حالة يومية مزمنة ومفضوحة،ينتهك فيها المال العام ،ويسرق وحتى ينهب بكل الاساليب، سواء بالتزوير او الاختلاس او الرشوةاو المحاباة ،او غيرها من الطرق الاخرى بحيث استبيحت كل مؤسسات الدولة وقطاعاتها ، وتحولت الى مؤسسات شبه فاشلة .

مما تسبب في عرقلةاو توقف بعض مشاريع التنمية ،وتدني مستوى النمو والتطور الاقتصادي، وخلق تشوهات ،وكبد الخزينة العامة خسائر مالية كبيرة نتيجة الاختلاس والهدر في الصرف ،والتطاول على المال العام ونهبه بمختلق الطرق،مما جعل مستوى الاقتصاد الليبي يتراجع، ويصاب بالتضخم، وتدني قيمة العملة الليبية تجاه العملات الاخرى،   بالرغم من امتلاك ليبيا مقدرات اقتصادية هائلة وموارد طبيعية ضخمة.

لقد تسبب الفساد المالي والاداري في ضياع المليارات من العملة الليبية والاجنبية معا ،مما انعكس سلبا على مستوى الخدمات العامة وجودتها ،وارتفعت تكاليف المعاملات المالية وارهقت ميزانية الدولة . وتفاقم الوضع اكثر خلال السنوات الاخيرة بعد الازمة السياسية، وحالة الانقسام السياسي وماصاحب ذلك من مظاهر الانفلات الامني وانتشار السلاح ،وظهور الجماعات المسلحة وانتشار ظواهر شادة وغريبة عن المجتمع الليبي مثل الجريمة والخطف والابتزاز والرشوة وتهريب الاموال والسلع المدعومة من الدولة ، والاتجار بالبشر ، كل ذلك أنهك اقتصاد الدولة الليبية وجعل منها دولة هشة وضعيفة ومرهقة اقتصاديا وماليا.

ونتج عن ذلك ان ارتفع العجز التراكمي للسنوات 2012_2016 الى 57 مليار دينار . وقد بلغ الانفاق الحكومي في العام 2016 ماقيمته 30 مليار دينار ,مقابل ايرادات نفطية وسيادية قدرها 9 مليار دينار ، اي بعجز قرابة 21 مليار دينار .

وارتفعت معدلات التضخم في تلك السنة اعلى مستوياته حيث بلغ مايقارب 31.3% وانخفضت قيمة العملة الليبية وسعر صرفها مقابل العملات الاخرى الى حد كبير ، أضف الى ذلك تهريب مبالغ طائلة من العملات الاجنبية التي استقرت في مصارف دول اخرى في الخارج، مقابل ذلك انخفض الاحتياطي الاجنبي من العملة الصعبة الى أدنى مستوياته (ديوان المحاسبة ، 2015 ).ورغم ان السنوات اللاحقة شهدت تفعيل دور الاجهزة الرقابية ،وانخفاض مستوى ممارسة الفساد إلا انه مازال يشكل تحديا خطيرا على كل مؤسسات الدولة .

لم تقم كل الحكومات المتعاقبة على ليبيا خلال الخمس عقود الماضية باي خطوات جدية ورادعة للتصدي لظاهرة الفساد المالي والاداري التي استشرت في كل مفاصل الدولة على الرغم من اتخادها عدة خطوات لمحاولة ايقاف هذه الظاهرة ،ورغم انها ايضا قامت بالتوقيع على عدة اتفاقيات ومعاهدات اقليمية ودولية في هذا الخصوص، وكما هو معروف ان ليبيا هي طرف موقع على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ، وموقعة ايضا على الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد  وهي ايضا ممثلة في الشبكة العربية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد ومجموعتها غير الحكومية.

محاولات التصدي لظاهرة الفساد المالي والاداري

تعد ظاهرة الفساد داء مستشريا في جميع مؤسسات الدولة وعلى جميع المستويات،وضيع على الدولة عشرات المليارت بين العملة الصبعة والمحلية،وافسد قدرة العديد من المؤسسات على اداء واجبها تجاه المواطن .

وقد قامت الدولة بعدة خطوات لمحاولة التصدي لظاهرة الفساد ، تمثلت في انشاء عدد من المؤسسات الرقابية من بينها ، ديوان المحاسبة المختص بالرقابة المالية، وهيئة الرقابة الادارية ، وهيئة مكافحة الفساد،وهيئة الرقابة على الاغدية والادوية، وهى مؤسسات رقابية حكومية ، كما صدرت عدة قوانين من بينها قانون مكافحة غسيل الاموال في العام 2005 .

وقد كشف ديوان المحاسبة في العام 2015 عن مجموعة من المخالفات المحالة لجهات التحقيق خلال عام بلغت محصلتها 102 ملف ارتكبها 483 شخص ، حيث اتخد ديوان المحاسبة ضدهم عدد من الاجراءات تراوحت بين السجن، والايقاف عن العمل ،و الاستبعاد من المناصب ، واسترجاع الاموال المنهوبة، والاحالة الى النائب العام ، والاحالة الى هيئة الرقابة الادراية .

ولكن لم تفلح كل هذه الاجراءات الرادعة في مكافحة الفساد أو حتى التقليل منه ،لعدة اسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تحد من فاعلية مثل هذه الاجراءات ،وتعطل فاعليتها .

يشير أحد تقارير صندوق النقد الدولي أنه لتحسين الاستقرار الاقتصادي وتحقيق التنمية الاقتصادية لابد من محاربة الفساد عن طريق تحقيق الشفافية والافصاح وتوفر المؤسسات الكفؤة والفعالة والقيادة الرشيدة (صندوق النقد الدولي 2016). ويشر التقرير أيضا إلى أن الفساد يعوق إدارة سياسة الموازنة والسياسة النقدية ويضعف الاشراف المالي .

والخلاصة .إن محاربة الفساد بجميع انواعه المالي والاداري يعد من اولويات التغيير والتطور الذي تحتاجه ليبيا ، وبدون القضاء على الفساد لايمكن توقع النجاح في إحداث الثنمية الشاملة .والاكيد ،إن إستشراء الفساد والمحسوبية، وتغليب المصالح الشخصية والقبلية والمناطقية يؤثر سلبا وكليا على الأداء الاقتصادي للدولة ،وخلق تشوهات في بنية الاقتصاد الليبي الذي يعاني اصلا من اثار هيمنة القطاع العام لعقود طويلة.

من الواجب وضع آليات محكمة لمحاربة الفساد ،من خلال تبني الدولة استراتيجية تتفق والمعايير الموضوعة من قبل منظمة الشفافية الدولية، والمعايير الدولية ذات الصلة،واتباع آليات الشفافية،وتوفير البيانات والمعلومات الدقيقة في الاجراءات والتعاقدات والانفاق ،واتباع اسلوب التشهير بحق مرتكبي الجرائم الاقتصادية والمالية وإهدار المال العام .

كما يجب تفعيل دور الاجهرة الرقابية ،ووضع آليات لمراقبة اعمالها ،دون المساس بالشفافية والعدل،وتستدعي طبيعة عمل الاجهزة الرقابية ان تكون مستقلة عن اي إصطفاف سياسي ،او الانتماءات المناطقية ،وان وتعمل بمهنية وشفافية ،ووفق استراتيجية متكاملة .

بقلم: الدكتور :مسعود المهدي السلامي  أستاذ الاقتصاد السياسي 

أشهر في موقعنا