ترتكز القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، جزئيا، على هيمنة عملتها. ورغم أن هذا الدور كان موضع تساؤل في أوقات مختلفة على مدى نصف القرن الماضي، إلا أن التطورات الجيوسياسية الحالية تشكل التحدي الأكثر خطورة حتى الآن لهيمنة الدولار.
حاليا يمتلك الدولار حصة سوقية غير مسبوقة، فهو يمثل 96 % من التجارة في الأمريكتين، و74 % في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، و79 % في بقية العالم. فقط في أوروبا، حيث يهيمن اليورو والدولار على 66 %، لا يعتبر الدولار عملة التجارة المفضلة.
علاوة على ذلك، تعد نحو 60 % من المطالبات بالعملة الدولية والأجنبية (خاصة القروض) والالتزامات (خاصة الودائع) مقومة بالدولار، وتبلغ حصته من معاملات الصرف الأجنبي 90 % تقريبا. ونحو 60 % من الاحتياطيات الأجنبية الرسمية العالمية بالدولار.
وتفيد هيمنة الدولار الولايات المتحدة بطرق عديدة، فهو يسمح لها بتمويل العجز المزدوج الضخم ــ الميزانية (6 % تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي) والتجارة (3 % تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي) ــ من المستثمرين الأجانب ولا سيما من خلال شراء الأوراق المالية بالدولار، مثل السندات الحكومية.
وبحسب موقع ماركت ووتش التابع لشركة داو جونز آند كومباني، يمنح ذلك ميزة للشركات الأمريكية، التي تتعامل بشكل رئيس بالدولار بعيدا عن مخاطر العملات، وتحتل أسواق رأس المال والمؤسسات المالية الأمريكية مكانة بارزة في التوسط في تدفقات رأس المال.
ويتمتع صناع السياسة في الولايات المتحدة، مثل الاحتياطي الفيدرالي، بسلطة كبيرة لأن أسعار الفائدة والسياسة النقدية الأمريكية تؤثران في قيم العملات وتكلفة رأس المال في أماكن أخرى.
لكن الدولار الأمريكي يواجه الآن تهديدين رئيسين، أولا، تؤدي السياسة المالية والنقدية المسرفة، المستمرة، التي تنتهجها الولايات المتحدة إلى جعل القوة الشرائية طويلة الأجل للدولار غير مؤكدة. فعلى عكس الذهب، مثلا، انخفضت القوة الشرائية للدولار 99 % منذ 1972.
ثانيا، أصبح الدولار السلاح المفضل لأمريكا لتعزيز أهدافها السياسية والحفاظ على مكانتها العالمية، واستخدام الدولار سلاحا يسمح بتطبيق سياسات وقوانين الولايات المتحدة خارج حدودها.
وزاد مثل هذا الاستخدام من إحجام المؤسسات العامة والخاصة الأجنبية عن التعامل بالدولار، أو امتلاك أصول مقومة بالدولار.
مع ذلك، يبدو أن صناع السياسات في الولايات المتحدة غافلون عن المخاطر، ويتحدثون عن القوة الحالية للدولار ــ التي تعكس عوامل قصيرة الأجل ــ والفروق في أسعار الفائدة وتأثيرات الملاذ الآمن.
كما يعتقدون أن الحواجز العملية التي تحول دون التحول عن الدولار من شأنها أن تحافظ على هيمنتة ومكانة أمريكا الاستثنائية.
وبالفعل بدأ المستثمرون الأجانب في الابتعاد عن الدولار، فمثلا، قلصت الصين حيازاتها من سندات الخزانة الأمريكية إلى نحو 800 مليار دولار، أي أقل 40 % عما كانت عليه قبل عقد.
ويفضل المستثمرون الأجانب الآن الأصول الحقيقية، فقد زادت مشتريات البنوك المركزية من الذهب والعملات الأخرى غير الدولار، كما بدأت تظهر ترتيبات تجارية بديلة تتمحور حول تكتلات تجارية إقليمية وعلاقات تجارية ثنائية أكثر توازنا، مع الدفع بالعملة المحلية للمصدر والمستورد.
وسيكون للتحول بعيدا عن الدولار آثار خطيرة في العالم، وفي قدرة أمريكا على الاستمرار في تمويل عجز الميزانية والتجارة.
وتمتلك المصالح الأجنبية (خاصة اليابان والصين ودول شرق آسيا الأخرى والدول النفطية) ما لا يقل عن سبعة تريليونات دولار من سندات الخزانة الأمريكية (24 % تقريبا من إجمالي ديون الولايات المتحدة)، ومن المرجح أن يكون الرقم الحقيقي أعلى بسبب الصعوبات في تتبع الممتلكات.
وقد يتعين رفع أسعار الفائدة على الدولار وتخفيض قيمة العملة للتعويض عن المخاطر المتزايدة ونقص المشترين.
وإذا سعى الملاك الأجانب إلى تسييل الأصول بالدولار، أو عدم إعادة استثمار آجال الاستحقاق أو الدخل القائم على الدولار، فقد تظهر الضغوط بسرعة.
في هذه الحالة، ستضطر الشركات الأمريكية إلى التجارة بالعملات الأجنبية مع شركاء لن يكونوا على استعداد لقبول الدولار وستتعرض لمخاطر أكبر في صرف العملات الأجنبية.
وسيتضاءل دور أسواق رأس المال الأمريكية مع انخفاض تدفقات الدولار، لأن قدرا كبيرا من الأموال التي تتدفق عبر الأسواق الأمريكية تتمثل في معاملات إعادة التدوير، حيث يعيد مالكو الدولار الأجانب استثمار ممتلكاتهم في الأصول الأمريكية.
وستنخفض سيولة هذه الأسواق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أرباح المؤسسات المالية الأمريكية، كما سينخفض تأثير أمريكا في الاقتصاد العالمي، وكذلك مكانة الولايات المتحدة ونفوذها السياسيين.
العرب الاقتصادية