تشهد الساحة العالمية سلسلة من الأزمات بدءاً من الحرب المحتدمة في أوكرانيا والحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وصولاً إلى تهديدات مرشح الرئاسة الأمريكية الجمهوري دونالد ترمب بفرض تعريفات جمركية شاملة. كل هذه الأزمات ترفع احتمالات تصاعد التوتر في العلاقات الدولية، ما سيكون له تبعات اقتصادية كبيرة وسلبية على مستوى العالم.
حددت “بلومبرغ إيكونوميكس” 3 سيناريوهات للمستقبل: الأول هو سيناريو “تباطؤ العولمة” كحالة أساسية للتحسن التدريجي في التعاون العالمي. والثاني يتناول تقسيم العالم إلى كتل على غرار الحرب الباردة. أما الثالث فهو سيناريو عودة غير محتملة إلى العولمة السريعة. وفي كل سيناريو، تم تطبيق مجموعة من النماذج لتقدير تأثيره على الناتج المحلي الإجمالي والديون في الاقتصادات الكبرى.
وأظهرت النتائج أن نشوب حرب باردة ثانية قد يؤدي إلى خسارة قدرها 7.1 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول 2035 مقارنة بما سيكون عليه الوضع إذا استمر تباطؤ العولمة. كما أن النمو الاقتصادي البطئ وزيادة الإنفاق الدفاعي سيسهمان في رفع مستويات الديون.
مفترق طرق للسياسات الأمريكية
الانتخابات الأمريكية المقررة في الخامس من نوفمبر ستكون نقطة تحول مهمة. فبينما لا تزال نائبة الرئيس كامالا هاريس تعمل على وضع اللمسات الأخيرة لسياستها الخارجية، يبدو أن الاستمرارية ستكون الخيار الأقرب، مع استمرار الضوابط التجارية على الصين، والدعم المستمر لأوكرانيا، والحفاظ على التحالفات الممتدة من أوروبا الغربية إلى شرق آسيا.
وفي المقابل، يتعهد ترمب بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 60 % على الصين، وما يصل إلى 20 % على بقية الدول، ما سيشكل صدمة تجارية هي الأكبر منذ قانون “سموت هاولي” الذي أسهم في تعميق الكساد الكبير في الثلاثينيات. كما يهدد الرئيس السابق بسحب الضمانات الأمنية الأمريكية من الدول التي لا تلتزم بدفع حصتها، إضافة إلى خطط ترحيل المهاجرين غير المصرح لهم.
الواقع أكثر تعقيدا، وسيناريوهاتنا المبسطة لا تهدف إلى تقديم تنبؤات دقيقة لما سيحدث في ظل رئاسة هاريس أو ترمب. ومع ذلك، في مجالات التجارة والهجرة ودور الولايات المتحدة في العالم، يظهر بوضوح الفرق بين السياسات المقترحة لكل منهما.
وتبين هذه السيناريوهات الديناميكيات والتداعيات المحتملة في حال تصاعد التوترات الدولية، كالآتي :
السيناريو الأول : تباطؤ العولمة
في ظل سيناريو تباطؤ العولمة، لا يحدث تقدم كبير في خفض الحواجز أمام التجارة والاستثمار والهجرة، لكنها لا تزداد سوءاً أيضاً. تبقى التعريفات الأمريكية وضوابط التصدير المفروضة على الصين قائمة، لكنها ليست صارمة بما يكفي لقطع الوصول إلى الأسواق أو التكنولوجيا العالمية. وتستفيد الاقتصادات المتقدمة من الهجرة التي تزيد من القوى العاملة وتعزز الإنتاجية، مع استمرار مكاسب الكفاءة من التجارة.
في هذا السيناريو، يبلغ متوسط النمو العالمي خلال العقد المقبل نحو 3.3 %، بانخفاض من 3.7 % في العقد السابق لأزمة كوفيد-19. ويرتفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 105 تريليونات دولار في 2023 إلى 183 تريليون دولار بحلول 2035. ورغم استفادة الصين من تعزيز طفيف في الروابط العالمية، إلا أن الديون المتزايدة وانخفاض عدد السكان يبطئان نموها ليصل إلى 3.7 % في المتوسط، مقارنة بـ7.7 % قبل جائحة كوفيد.
في الولايات المتحدة، يتباطأ النمو إلى 1.7 % مقارنة بـ2.4 %. ومع ذلك، تستمر مستويات الديون في الارتفاع نتيجة لضغوط الإنفاق من شيخوخة السكان وارتفاع أسعار الفائدة، إلى جانب التحديات السياسية التي تؤجل تنفيذ سياسات الانضباط المالي إلى المستقبل بدلاً من الآن.
وبالنسبة لدول مجموعة السبع المتقدمة، تقفز الديون من 126 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2023 إلى 142 % في عام 2035، بينما ترتفع في الولايات المتحدة من 97 % إلى 139 %، وفي الصين تزداد من 56 % إلى 88 %.
السيناريو الثاني : حرب باردة جديدة
يؤدي سيناريو الحرب الباردة الثانية إلى انقسام العالم إلى كتلتين متنافستين تقودهما الولايات المتحدة والصين. ترتفع التعريفات بين الكتلتن من متوسط 8 % إلى نحو 40 %، وهي مستويات شبيهة بتلك التي فرضتها الصين على بقية العالم في عام 1992. يتوقف تدفق الهجرة بين الكتلتين، ويسحب المستثمرون أموالهم من الدول المنافسة. كما يرتفع الإنفاق الدفاعي العالمي من متوسط 2.3 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2023 إلى 4 % بحلول عام 2035.
الأثر الاقتصادي لهذا السيناريو واسع النطاق، إذ يؤدي توقف التجارة وتدفقات رأس المال إلى إعاقة وصول الأسواق الناشئة إلى التكنولوجيا المتقدمة، ما يبطئ من مكاسب الإنتاجية. وتتأثر الدول التابعة لكتلة الصين بشكل كبير، كما تؤثر قيود الهجرة في نمو القوى العاملة والإنتاجية في الاقتصادات المتقدمة التي تتبع كتلة الولايات المتحدة أيضاً.
من المتوقع أن يتباطأ النمو الاقتصادي العالمي في العقد المقبل إلى 2.9 %، ما يعني أن الاقتصاد العالمي في 2035 سيكون أصغر بنحو 7.1 تريليون دولار مما هو عليه في سيناريو تباطؤ العولمة. في الولايات المتحدة، سيتباطأ النمو السنوي إلى 1.6 %، ما يتسبب في خسارة بنحو 500 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2035. أما في الصين، فسيكون متوسط النمو 3 %، ما يؤدي إلى خسارة 2.5 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2035. ومن المقرر أن تعاني الدول التي استفادت أكثر من العولمة عندما تنعكس هذه المكاسب.
بالنسبة للديون، فإن مزيجاً من الإنفاق الدفاعي المرتفع والنمو الأبطأ سيزيد من العبء المالي. في دول مجموعة السبع المتقدمة، ومن المتوقع أن يرتفع معدل الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في ظل هذا السيناريو إلى 171 % بحلول 2035، أي أعلى بنحو 29 نقطة مئوية مقارنة بالسيناريو الأساسي المتمثل في تباطؤ العولمة. وفي الولايات المتحدة، قد يرتفع الدين إلى 148 %، وهو مستوى صعب الاستدامة، فيما يقفز إلى 118 % من الناتج السنوي في الصين.
السيناريو الثالث : إعادة العولمة
تخيل عودة التعريفات الجمركية بين الولايات المتحدة والصين إلى مستوياتها قبل الحرب التجارية، مع اختتام جولة الدوحة لخفض التعريفات الجمركية، التي بدأت في نوفمبر 2001. إضافة إلى عودة تدفقات رأس المال والهجرة بين الولايات المتحدة والصين إلى مستوياتها السابقة للحرب التجارية، بينما يظل الإنفاق الدفاعي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ثابتاً.
في هذا السيناريو، من المتوقع أن يبلغ متوسط النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي العالمي 3.4 % خلال العقد المقبل، مما يرفع حجم الاقتصاد العالمي إلى 186 تريليون دولار بحلول 2035. وفي الولايات المتحدة، سيتسارع النمو إلى 1.8 %، ما يضيف 600 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2035 مقارنة بالسيناريو الأساسي.
أما في الصين، فإن إزالة الحواجز التجارية وتجدد تدفقات رأس المال ستزيد متوسط النمو إلى 4 %، ما سيضيف 800 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي في نفس العام. النمو الأسرع سيسهم في تقليص نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، لكن مع بقاء الإنفاق الدفاعي ثابتاً سيكون التأثير هامشياً.
ما هو المستقبل المحتمل؟
بغض النظر عن الفائز في انتخابات نوفمبر المقبلة، فإن العودة السريعة إلى عصر العولمة المزدهرة في التسعينيات وأوائل الألفية تبدو غير مرجحة. فقد أظهر فوز ترمب في 2016 قوة الرفض السياسي للتجارة الحرة، مما قلل من حماس واشنطن للعودة إلى الإجماع النيوليبرالي السابق. ومع ذلك، يتغير الزمن والقادة، لذا فإن العودة إلى الحماسة للعولمة قد تكون غير مستبعدة تماماً، رغم أنها تبدو غير مرجحة في الوقت الحالي.
في الوقت الراهن، تباطؤ العولمة هو الوضع القائم، ويعتبر مؤشراً منطقياً لما يمكن أن يحدث في المستقبل. كما أن نموذج “الحديقة الصغيرة والسياج العالي” الذي تتبعه الولايات المتحدة، والذي يسعى إلى منع وصول الصين إلى مجموعة معينة من التقنيات الحيوية للأمن القومي مع استمرار الاستفادة من الانفتاح الأوسع، يحافظ على رضا الشركات الأميركية ويستجيب لبعض المخاوف الأمنية.
لكن السؤال الآن هو: هل يمكن أن تؤدي ولاية ثانية لترمب إلى اندلاع حرب باردة جديدة؟
ربما لا. فسياسات ترمب تستهدف الحلفاء مثل ألمانيا بنفس القدر الذي تستهدف به الخصوم مثل الصين. وهناك أيضاً تساؤلات حول مدى قدرة ترمب على تحويل وعود حملته الانتخابية إلى واقع فعلي خلال فترة توليه المنصب. لكن المناخ التصعيدي وتغريدات ترمب يمكن أن تؤثر في زخم السياسات.
حاليا، من الصعب التحدث بإيجابية عن الصين في واشنطن، والعكس صحيح في بكين، وهذا الوضع قد يؤدي إلى تدهور العلاقات بشكل أكبر.
العالم الذي يقع بين سيناريو تباطؤ العولمة وسيناريو الحرب الباردة الثانية ليس بيئة مواتية، حيث سيكون النمو أضعف، وفرص الاستثمار أكثر خطورة. كما أن تفكيك سلاسل التوريد سيؤدي إلى زيادة التضخم. أما بالنسبة للأسواق الناشئة، فإن الانتقال من الدخل المنخفض إلى الدخل المرتفع سيصبح أكثر تعقيداً. وقد يكون ثمن الحفاظ على الأمن مستحقاً، لكنه سيكون بالتأكيد باهظاً.