تعدّ ليبيا إحدى أكثر دول العالم جفافا ،ومعاناة من شح المياه ، وهي تواجه أزمة مياه تنذر بالخطر،وتؤثر على كل اوجه الحياة في ليبيا ،وعلى مستقبل الاجيال القادمة.
وبسبب ندرة المياه ،وزيادة مساحات التصحر، والهدر الكبير في كميات المياه المتاحة ،وغياب اي دور للدولة في التصدي لتداعيات هذه المشكلة ،تشتد خطورة الازمة،على الامن المائي،والامن الغدائي في ليبيا .
ورغم الانقسام السياسي والصراع العسكري الذي ابتليت به البلاد ،إلا ان ازمة المياه هي الهاجس الاكبر الذي يشغل بال الليبيين ،خاصة وان ليبيا لايوطد بها انهار توفر مصدرا للمياه ،مما استعاضت عنه الدولة الليبية بإنشاء مشروع النهر الصناعي ،وهو رغم اهميته في سد جانبا مهما من حاجة البلاد من المياه ،إلا انه مشروع غير كاف لتغطية حاجة البلاد من المياه .
واقع مشكلة المياه في ليبيا
من المعلوم ان 95% من مساحة ليبيا هي صحراوية ،او شبه صحراوية ، ويسود الجفاف اغلب الاراضي في ليبيا ،حيث يتلقى الشريط الساحلي الضيق (أقل من 5% من البلاد ) غالبية سقوط الامطار.
وعلاوة على زيادة الاحتياجات المائية نتيجة لتزايد عدد السكان والاستهلاك المفرط ، تواجه ليبيا أزمة مياه حادة بشكل متزايد ، حيث بلغ الطلب على المياه في ليبيا ضعف امدادات المياه تقريباً عام 2020 ( تم إمداد 3820 مليون متر مكعب مقابل الطلب الذي بلغ 7236 مليون متر مكعب ) .
ويأتي 1.8% فقط من المياه التي يتم إمدادها حاليا من مصدر متجدد نسبيا للمياه: أي تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي. بعبارة أخرى ، يبلغ نصيب الفرد من انتاج المياه في ليبيا من مصادر متجددة أل من عُشر المتوسط العالمي .
ونتيجة الظروف الجغرافية والبيئية الصعبة، تعتمد ليبيا بشكل أساسي على امدادات المياه من مصادر المياه الجوفية ، والتي تمثل نحو 97% من إمدادات المياه في ليبيا . وتساهم المياه السطحية في أقل من 3% من إمدادات المياه الحالية في البلاد، وذلك لأن البلاد تتضمن عدداً قليلاً جداً من الأنهار والبحيرات والينابيع الطبيعية التي تتمتع بمياه عذبة صالحة ومعدل تصريف مناسب .
تأتي معظم المياه الجوفية من طبقات المياه الجوفية في جنوب البلاد ، من ثلاث احواض رئيسية هي الكفرة ومرزق والحمادة ، والتي يتم الوصول إليها باستخدام النهر الصناعي بهدف نقل المياه الجوفية من الجنوب إلى الشريط الساحلي للبلاد حيث تعيش الغالبية العظمى من السكان .
يتألف النهر العظيم من نحو 3500 كيلومتر من الأنابيب، تصل مياهه إلى ثلثي المدن الليبية في مرحلة التطوير الحالية. إلا أن النهر الصناعي يحمل مجموعة من التحديات والقيود الخاصة ويعمل حاليا بنسبة 40% من إمكاناته الكاملة.
لذا تعتمد بعض المناطق على آبار تستخرج المياه من طبقات المياه الجوفية الضحلة التي تسمى آبار المياه الجوفية .
وقد تفاقمت الأزمة مؤخراً بسبب النمو السكاني وتحديات البنية التحتية ، وسوء إدارة مسألة المياه ، وسيكون من المستحيل تقريبا تلبية جميع الاحتياجات لفترات زمنية اطول في ظل الظروف الحالية ، حيث لا يغطي الإنتاج من جميع مشاريع السدود وإعادة تدوير مياه الصرف وتحلية المياه .
كما تتفاقم مشكلة النقص الحاد في المياه في ليبيا بسبب التغيرات المناخية ، والذي أدى إلى زيادة عدد فترات الجفاف ، ومعدل التبخر.
في فبراير من العام 2020 ، قرعت اليونيسف ناقوس الخطر بإعلانها أن « أكثر من 4 ملايين شخص ، بمن في ذلك 1.5 مليون طفل في ليبيا ، سيواجهون مشكلة مائية وشيكة اذا لم يتم إيجاد حلول فورية وتنفيذها ». ووفقاً للخبراء ، فإن حالة الموارد المائية والبنية التحتية في ليبيا تقترب من مستويات الإنهيار . وقد اكتسبت تحذيرات اليونيسف أهمية خاصة في أعقاب النتائج التي أسفرت عنها دراسة أُجريت في وقت لاحق من العام نفسه وشملت 45 مدينة في ليبيا ، حيث وجدت أن 73% من المشاركين في ترهونة ، على سبيل المثال ، أفادوا بعدم كفاية المياه لتلبية احتياجاتهم في فترة 30 يوماً قبل جمع البيانات.
ويتوافق هذا مع حقيقة أن إمدادات المياه في غرب ليبيا قد انخفضت من 1.2 مليون متر مكعب بسبب التخريب وعدم الصيانة. وبسبب النمو السكاني المتزايد في ليبيا .
وتشير التقديرات الى أن ليبيا ستحتاج نحو 8 مليارات متر مكعب من المياه بحلول عام 2025 ، أي ضعف ما يتم إمدادها به اليوم.وادا اخدنا في الاعتبار ان قطاع الزراعة في ليبيا يعتمد بشكل اساسي على المياه الجوفية،فإن شح المياه سيؤدي الى الاضرار المباشر بهذا القطاع ،والى انعكاسات سلبية على اسعار السلع الاساسية التي يعتمد عليها المواطن في حياته .
مشروع تحلية مياه البحر
تمتلك ليبيا 8محطات لتحلية المياه عبر ساحلها الطويل ،احداها خارج الخدمة بينما تعمل المحطات 7 المتبقية بنحو 28% من قدرتها التشغيلية بسبب تأخر الصيانة ونقص المواد الكيميائية وقطع الغيار. وإضافة إلى ذلك ، على الرغم من أن تحلية المياه تمثل البديل الوحيد للمياه الجوفية الذي يمكن تنفيذه ، حيث تعيش الغالبية العظمى من السكان الليبيين على طول الساحل، إلا أنها تتسم باستهلاكها الكبير للطاقة وبتكاليفها الباهظة.
في الوقت الحالي، يكلف كل متر مكعب من المياه الناتجة من محطات تحلية المياه نحو ستة أضعاف ما تدفعه الحكومة الليبية لسعر المتر المكعب من مشروع النهر الصناعي . لهذا يجب على الحكومة تقييم كيفية خفض التكلفة قبل اعتماد هذا البديل على نطاق واسع ، لأن هذا البديل سيفرض أعباء مالية كبيرة على الميزانية العامة التي تشهد زيت الوقود الخفيف المستخدم حالياً إلى الغاز الطبيعي أو الطاقة الشمسية ، مايخفف تكلفة عملية تحلية المياه بشكل كبير .
وعلى الرغم من أهميتها بالنسبة إلى إمدادات المياه في ليبيا في المستقبل ، إلا أن البلاد تفتقر إلى مؤسسة أو وكالة معينة لتعزيز وإدارة موارد تحلية المياه، حيث تتولى الشركة العامة لتحلية المياه تشغيل محطات تحلية المياه فقط ، ولا تضطلع بأي دور فيما يتعلق بتطوير السياسة والاستراتيجية .
وإلى جانب محطات تحلية المياه ، تمتلك ليبيا 75 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي ، ماتزال عشر محطات منها فقط تعمل. تعالج هذه المحطات العشر أقل من 11% من مياه الصرف المتولدة من المراكز الحضرية ، بينما يتم تصريف الباقي في البحر أو في الفضاء المفتوح دون أي معالجة، ما يتسبب في أضرار جسيمة للبيئة .
مشكلة ندرة وسوء إدارة معاً :
تأتي مشكلة ندرة المياه التي تعاني منها ليبيا في جزء كبير منها من أسباب بشرية ، ومنها سوء الادارة و ارتفاع الطلب على المياه بسبب النمو السكاني ، وآثار النزاع المسلح الدائر منذ عام 2011.
وتعرض شبكة خطوط أنابيب النهر الصناعي للعديد من الهجمات والتخريب المتعمد الذي تسبب في عدم قدرته على العمل بكامل طاقته بسبب انقطاع خطوط الأنابيب أو إغلاقها ، وتعطل تزويد مناطق الشريط الساحلي بالمياه.
في يوليو 2021 قال صلاح السعدي ، المتحدث باسم مشروع النهر الصناعي : « قد تتسبب الهجمات المستمرة على أصول المشروع في إيقاف العمليات وتدفق المياه ، وهو وضع قد تكون له آثار كارثية على الأمن المائي في ليبيا ».
ووفقاً لليبيين ، يعاني جزء كبير من السكان من انقطاع المياه المتكرر ، وهو السبب الرئيسي الذي دفع العديد من السكان إلى حفر آبارهم الخاصة وعدم الاعتماد بشكل كامل على مشروع النهر الصناعي .
في الواقع كانت المياه إحدى الخدمات الثلاث الرئيسية التي طالب بها الليبيون خلال الاحتجاجات على تدهور الظروف المعيشية في ليبيا عام 2020.،ومن شأن انقطاع المياه المتواصل بسبب الظروف الأمنية المتردية في مناطق مشروع النهر الصناعي أن يجعل المياه كخدمة إحدى العوامل التي يمكن أن تؤدي الى إشعال نيران الأضطرابات الاجتماعية من جديد.
وإلى جانب التأثير المباشر للصراع المسلح ، وبسبب عدم الاستقرار السياسي ، لم تخصص الدولة ما يكفي من الإستثمار لصيانة وإصلاح البنية التحتية لإمدادات المياه . ولهذا ، تؤدي الظروف المتدهورة لشبكة توزيع المياه إلى تسربات كبيرة للمياه والتي تقدر في كثير من الأحيان بما يصل إلى 50% من إجمالى المياه.
وإضافة إلى ذلك ، ونظراً إلى العديد من مشاريع التوسع غير المكتملة ، يقتصر النهر الصناعي على خدمة المناطق الساحلية والمدن الكبيرة بشكل أساسي ، حيث تعدّ خدمة المناطق الريفية والجبلية باهظة التكاليف.
ومنذ عام 2011 واجهت نظم إدارة المياه في ليبيا صعوبات في التخلص من مشاكل سوؤ الإدارة وسوء إهدار المياه ، وغياب الحوكمة المائية، والإفراط في إستغلال الموارد المائية المتاحه ، وقلة الإستثمارات في مجال تحلية المياه ، علاوة على اعتماد الاقتصاد الليبي المفرط على عوائد النفط ، الأمر الذي أسهم في ترسيخ تصوّر لدى المواطن أن استهلاك المياه يجب أن يكون مجانيا .
وقد أدّت حالة الأنقسام السياسي والأقتصادي في البلاد إلى ظهور عدد من المشاكل الأخرى أهمها :
الأفتقار إلى أدنى انتباه من قبل مسؤولى الدولة لأهمية المياه ، وإلى ظرورة الحرص على ترشيد إستهلاك المياه ، وتجاهل التحديات التي تواجه مشروع النهر الصناعي .
واذا أرادت ليبيا تجنب الأسوأ في موضوع مشكلة المياه يجب عليها أن تقوم بتطوير سياسات مائية تشاركية تتيح إدارة الموارد المائية بفاعلية وانضباط . والعمل على تقديم الدعم المالي اللازم للهيئة العامة لتحلية المياه لتتمكن من صيانة المرافق القائمة ، إضافةً إلى دراسة أمكانية تمديد نطاق المرافق لتشمل مناطق أخرى بعيدة عن الساحل ، وتشجيع القطاع الخاص في ليبيا للقيام بدور حيوي في علاج مشكلة المياه ، ورفع الوعي لدى المواطن حول ترشيد استهلاك المياه ، خاصة وأن مجانية استهلاك المياه نتيجة دعم الدولة قلّل الحافز عند المواطن لضبط وترشيك الاستهلاك ، ولابد من رفع مستوى الوعي حول أهمية الحفاظ على المياه .وضرورة ابتكار وسائل بديلة لإدارة المياه الجوفية ،واستكشاف امكانية تنمية موارد المياه الاخرى ،مثل إعادة النظر في تحلية مياه البحر ،والتقنيات الاخرى المحتملة التي يمكن ان تدعم الطلب المتزايد على المياه في ليبيا .
كما أنه من الضروري العمل على تسعير استهلاك المياه ، وجعله بمقابل ، ونقل خدمات التحكم في المياه وادارتها الى شركات خاصة،تتولى إدارة ملف المياه الذي قد يعوض فشل الدولة في إيجاد حل لمشكلة ندرة المياه .
والواجب الحفاظ على مخزونات المياه الجوفية التي تعد رصيدا استراتيجيا من المياه للاجيال القادمة ،خاصة وانه من المتوقع ان تنشب الحروب في المستقبل بسبب الصراع على المياه.
بقلم الدكتور مسعود المهدي: أستاذ الاقتصاد السياسي